العلامات في المسرح الإغريقي الجزء الاول /أحمد شرجي

عرف أرسطو المأساة بأنها “محاكاة فعل نبيل تام، لها طول معلوم، بلغة مزودة بألوان من التزيين يختلف وفقاً لاختلاف الأجزاء، وهذه المحاكاة تتم بواسطة أشخاص يفعلون، لا بواسطة الحكاية، وتثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات”( أرسطو، فن الشعر، ص 18)، وعليه فإن جوهر المأساة هو الفعل Action أو مجموعة الأفعال، وهي التي تقود الحكاية، بوساطة أشخاص/ شخصيات، حتى تصل إلى الهدف الذي وجدت من أجله وهو التطهير Catharsis.

بمعنى آخر ارتكزت المأساة على العلامات السيمانطيقية، وأهملت كل ما يحول دون سيادة الملفوظات الدلالية داخل العرض، من أجل إيصاله للمتلقي. والفعل/ الأفعال يكون بمثابة الوحدة الكبرى في التراجيديا Tragedy، وهذا يتجلى أيضا باختصارها للحدث بوحدة زمكانية واحدة.
والشخصيات ليست سوى علامات إعلامية لترسيخ الفعل/ الحدث، مع الإشارة إلى أنه ليست الشخصية هي المهمة، بل فعلها. ففعل ارتكاب أوديب للخطيئة: قتله لأبيه وتزوجه أمه وإنجابه منها، هذه الأفعال ضد الإرادة الإلهية، وهذا ما تريد أن تصل إليه المأساة، لأن ما قام به أوديب أفعال رذيلة، حتى لو كان خطأ غير مقصود، وإذا كان مقصودا كما في مسرحية بروميثوس مقيداً عندما سرق النار وأنزلها إلى الأرض. فهو أيضا تجاوز للإرادة الإلهية، ومن ثمّ يصبح الهدف جليا من الفعلين (فعل أوديب، وبروميثوس)، ما يساعد المتلقي ليستمد الحكمة والموعظة منهما. وما يهمنا في هذه الأفعال هو كيفية تجسيدها، حيث كثرة الشخصيات التي تقوم بالأفعال، وكل ذلك يتجسد عن طريق الأقنعة، لا شخصيات قائمة بذاتها (ممثلين)، بل الأقنعة هي التي تشير إليها، والممثل ليس سوى الحامل لعلامة الشخصية القناع Mask، إذ هو الثابت الوحيد في حين الأقنعة/ الشخصيات متغيرة.
يشكل الفعل العلامة الكبرى في المسرح الإغريقي، لأن المأساة تحاكي الأفعال، والأفعال تكمن في الحوار المسرحي الذي استندت إليه الدراما الإغريقية بشقيها المأساة والملهاة، وهذا ما يؤكده أرسطو بقوله: إن “قوة المأساة تظل حتى من غير مشاهدين ومن غير ممثلين”(  نفسه ،ص 21).
وفي ضوء ذلك يكون النص الدرامي القوة التي ترتكز عليها المأساة، وبهذا فليس من الضروري تجسيدها، بل بقراءتها أيضا، يتم إنجاز هدفها بتوعية الآخر، عبر تبنيه الابتعاد عن تلك الأفعال التي تقف ضد الإرادة الإلهية؛ ولعل هذا من أهم الأسباب التي دعت الدراما الإغريقية ألا تعطي أهمية للعناصر المسرحية الأخرى، حتى تظل العلامات اللغوية متحكمة في الخطاب المسرحي. وهذا ما يؤكده تركيب النص، فالحبكة Plot تتكون من حدث واحد وليست مجموعة أحداث. من أجل عدم التداخل بالأحداث والموضوعات، ومن ثمّ منع تقويض الهدف الجوهري، أي التطهير. وكل الشخصيات/ الأقنعة، تعمل من أجل تعميق الهدف المأساوي الواحد، ولا تحيد عنه، في وقت يجب أن يبقى الفعل مركز الحدث، متسلسلا، متحد الحلقات لا يتجزأ، حتى لا ينفرط عقد (كليته ووحدته) أو يتزعزع كما يقول أرسطو. ولابد من وقفة تنبيه هنا على أن استخدامنا مصطلحي الشخصيات/ الأقنعة بهكذا ثنائية أو ازدواج هو بقصد التنبيه على علاماتية الشخصية (الدور) من جهة تعبيرها عن الحدث وتجسيده وعلى الصلة التعبيرية للأقنعة من جهة كونها أداتنا في متابعة الشخصيات بوصفها دوالّ أو علامات بعينها.
سيميولوجياً ، يمكننا تلمّس حقيقة أنّ المسرح الاغريقي قد شهد سيادة الملفوظات الدلالية على العناصر الأخرى في العرض المسرحي، على الرغم من أن نشأة التراجيديا كانت قد جاءت من الديثرامب Dithyrambe والرقص إلا أن الأناشيد [الملفوظات] بقيت مادته الأساس. وربما كان أمر سيادة الخطاب الديني في التراجيديا اليونانية هو ما حال دون إبراز العناصر الأخرى…
لهذا ارتكزت التراجيديا على ثلاث وحدات Three Unities أساسية هي: (الفعل، الزمان، المكان)، وقسمت الشخصيات إلى أخيار وأشرار. والمحاكاة فيها، هي محاكاة للأفعال وليس للأشخاص، وتتركز على ما تحدثه تلك الأفعال من آثار نفسية عند الجمهورPublic، ببلوغ فعل (التطهر/ التطهير) عن طريق الأفعال الدنيئة التي تقف ضد الإرادة الإلهية، وهذا ما يؤكده أرسطو: “كان المحاكون إنما يحاكون أفعالاً، أصحابها بالضرورة إما أخيار أو أشرار”(نفسه، ص7-8).
وهذا هو جوهر التراجيديا، منذ ممثلها الأول ثيسبس Thespis الذي كان يمثل شخصيات تاريخية أو أسطورية محاورا الجوقة، لإيصال الخطاب اللغوي.. وعندما كان الممثل الواحد كانت الوسيلة الوحيدة لإيصال الخطاب اللغوي هي القناع، الذي يمنحنا فرص اللقاء بتعدد الشخصيات داخل النص، فهو المصدر الوحيد لتمييز الشخصيات، وليس الممثل، إذ ان الممثل مجرد حامل للشخصية/ القناع، بعبارة أخرى بوصفه جسدا للقناع. فإنّ ما وصلنا هي الأقنعة، بوصفها شخصيات، ولا نستدل على أية إشارة عند أرسطو تشير إلى الممثل، أو التمثيل، بل بمقابل ذلك نجد إشارات كثيرة إلى الأقنعة وتعددها، وإلى وظيفتها، إن كانت داخل المأساة أم الملهاة.
لقد اندمجت شخصية الممثل مع شخصية الشاعر/ المؤلف، منذ عهد ثيسبس، كأول ممثل محترف، فلقد كان شاعراً إلى جانب كونه ممثلا، يؤدي ما ينظمه، فيما كان قبل ذلك الكورس هو من يجسد كل أحداث التراجيديا بمفرده. لقد جاء دخول ثيسبس ممثلا منفصلا عن الكورس، من أجل إراحة الكورس. كذلك ميز قائد الكورس من خلال القناع.. وبهذا [أي بدخول ثيسبس] يكون أول ظهور للممثل/ العلامة، وإن كان يتخفى خلف أقنعة ­ شخصيات متعددة، يفرضها الحدث…
أما مسألة اندماج شخصية الممثل/ الشاعر المؤلف، فلم تقترن بثيسبس لوحده، بل كانت الأرضية التي تأسست عليها الدراما الإغريقية. لأنها في الأصل جاءت بوصفها مسابقة للشعراء، لأنه “…على الشاعر، عند النظم، أن يكون، قدر الإمكان، ممثلا. فمن خلال التعاطف الطبيعي يكون الأكثر إمتاعاً وتأثيراً أولئك الذين هم تحت تأثير العاطفة الحقيقية” (كول توبي، شينوير، هيلين كريش، الممثلون والتمثيل تاريخ التمثيل، ص 34). ولهذا نجد تركيزا شديداً على عملية الإلقاء، وإظهار المشاعر لاستثارة الحس العاطفي للمتفرجين، ودور قائد الجوقة، ما هو إلا دور لتفعيل حالة الحوار، الحوار بين سائل ومجيب “ففي المسرح اليوناني حيث كان النص هو الأساس، والمهارة اللفظية هي المعيار في نجاح الممثل، كان الممثل يُسمى Hipoknites ­ الذي يُجيب”( إلياس، ماري، حسن، حنان قصاب، المعجم المسرجي: مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، ص 47(، لكسر الرتابة في عملية التقديم.
وهذا ما أنجزه لاحقا أسخيلوس Eschyle بإضافة الممثل الثاني، ليحول المسرحية إلى وضوح في إبراز الصراع بين الطرفين، وذلك ” ليجعل مسرحياته أقل جموداً، لكي يجعل الحبكة المملة تتحرك أفقيا على مستوى الحدث ورأسياً على مستوى الإثارة، فالممثل الثاني يأتي بأخبار طازجة ­ كما فعل (داريوس) وكما فعل الجاسوس في مسرحية سبعة ضد طيبة Seven Against Thebes = Septem، أو يقدم أوجها مختلفة للموقف بالنسبة للبطل­ كما فعل (أوقيانوس) و(إيو) في مسرحية برومثيوس Prometheus (460 ق.م)( ديور، إدوين، فن التمثيل من الآفاق والأعماق، ص 40).  إنَّ حال التداخل في شخصية الممثل/ الشاعر المؤلف التي رافقت مسيرة كل من ثيسبس وأسخيلوس، ستشهد تحولا كبيرا مع سوفوكلس Sophcle، بفكه ذلك التداخل والاندماج، بعد أن فصل التمثيل عن التأليف، وكذلك بتقديمه الممثل الثالث. وهكذا يكون سوفوكلس “قد تنازل عن حق الشاعر في الظهور في عروضه وخرج من تعداد الممثلين وترك التشخيص للمحترفين الذين أصبحوا آنذاك أكثر عدداً وكفاءة”( نفسه،ص 48)، ويرجع ذلك إلى قدرة سوفوكلس ويوربيديس التمثيلية التي لا يمكن مقارنتها مع أسخيلوس الذي يتمتع بمواهب كثيرة فهو “المؤلف، البطل المسرحي، المخرج، غورغراف ومصمم المناظر وكل هذه الوظائف، إضافة إلى موهبته العالية هي التي أعطته قوة بالمقارنة مع سوفوكلس الذي كان ممثلاً ضعيفاً وكذلك يوربيديس”( B. hunning , De opkomst van modern theater, van traditie tot experiment, ,P 2)، وطبعا جاء ذلك الضعف لصالح الممثل والتمثيل لاحقا. وعلى الرغم من هذا التحول والتطور الكبير على مستوى التمثيل (تعدد الشخصيات داخل العرض)، ظل القناع/ الشخصية ملازما لوجه الممثل، فهو العلامة الأكثر حضوراً داخل المسرحية من جهة تميز شخصية من أخرى، ولم يذكر لنا تاريخ المسرح الإغريقي، عن ممثل قام بتجسيد شخصية واحدة طوال العرض المسرحي، بل إنه عادة ما كان يجسد من ثلاث الى أربع شخصيات في العرض المسرحي الواحد، عن طريق تعدد الأقنعة/ الشخصيات.

المصدر / المدى

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *