الطريق إلى طروادة تبدأ من القاهرة / شريف الشافعي

المصدر / العرب / نشر محمد سامي موقع الخشبة

العرض المسرحي يتخذ من حرب طروادة نقطة انطلاق، ولكن المعالجة المصرية لم تكن بمستوى غزوة القائد أجاممنون لاستعادة هيلين أميرة أسبرطة.

تتقصى مسرحية “طريق طروادة”، التي عرضت في القاهرة قبل أيام، تضحيات البشر، وتستحضر أحداث الأساطير اليونانية وأجواء إلياذة هوميروس ومسرحية يوربيديس الشهيرة “إفيجينيا في أوليس”. ويثير العرض المصري سؤالا هو: هل تكفي النصوص القديمة لصناعة مسرح جديد؟

لا تزال الأعمال المسرحية الجيدة في مصر تتحسس طريقها في الوجود من خلال الاتكاء على نصوص عالمية بوصفها “طوق نجاة”، في ظل أزمة الورق (التأليف) وضعف الإنتاج وسوء حالة المسارح وفقر العناصر الفنية المؤهلة لبناء عمل محلي متكامل.

وفي هذا الإطار، جاء العرض المسرحي “طريق طروادة” الذي استند إلى الملاحم والأساطير اليونانية القديمة، متخذا من حرب طروادة نقطة انطلاق، ولكن المعالجة المصرية لم تكن بمستوى غزوة القائد أجاممنون لاستعادة هيلين أميرة أسبرطة.

منذ الدقائق الأولى من عرض “طريق طروادة”، الذي انطلق على مسرح ساقية الصاوي في حي الزمالك بالقاهرة، مساء الاثنين 6 أغسطس يجد المشاهدون أنفسهم في مفترق طرق؛ بين نصوص كلاسيكية محبوكة وأحداث أسطورية شيقة وحروب وملاحم ساخنة من جهة، وبين صياغة مفككة ولغة ركيكة ووقائع غير مترابطة ومبارزات مضحكة بسيوف خشبية من جهة أخرى.

افتراض ساذج

بنى المعدّ الدرامي والمخرج نور عفيفي معالجته لمسرحيته “طريق طروادة” (70 دقيقة) على افتراض ساذج، هو أن النصوص القديمة تكفي وحدها لصناعة مسرح جديد، ونسج خيوط عرضه المصري من عملين عالميين كبيرين؛ الأول “الإلياذة” لهوميروس، والثاني مسرحية “إفيجينيا فى أوليس” ليوربيديس.

أفسحت سينوغرافيا حسن عادل وعلي سماني المجال لأعضاء فرقة “شظايا” المسرحية ليكونوا آلهة وربات جمال وكهنة وسحرة ويونانيين متنوعين؛ بين ملوك وأمراء وقادة جيوش وجنود ورعية، وتهيأ المسرح بإضاءة متميزة لوليد درويش ليكون مكانا مثيرا من خلال المصابيح التي تنير وتنطفئ على نحو متتال، بالتوازي مع دقات الطبول وآلات الإيقاع الصاخبة.

هكذا، احتبست أنفاس الحضور مع رفع الستار وظهور الحشود البشرية على المسرح، بما يوحي ببدء معركة أو الإعلان عن حدث جلل. وتبدأ الشخصيات في الظهور تباعا، وتتوالى الأحداث في التكشف واحدا تلو الآخر، ليتجلى أن “الشظايا” لا تشير فقط إلى اسم الفرقة التي تؤدي العرض، بل تسم هذه الشظايا العرض المسرحي نفسه، الذي لا يعدو أن يكون نثارات منتقاة من روائع الماضي بصياغات هشة متكلفة.

من روح الدراما والأساطير اليونانية، يستحضر العرض من بين ثنايا الأدب والتاريخ انطلاق أجاممنون قائد جيوش اليونان إلى طروادة لاستعادة هيلين ملكة أسبرطة وزوجة منيلاوس شقيق أجاممنون، التي أغواها باريس باسم الحب، فهربت معه، أو خطفها، وصار لزاما على اليونانيين تحريرها، ثأرا لشرفهم، وتمثيلا لشجاعتهم.

وعلى الجانب الآخر من الحكاية، التي يختلف أدباء اليونان ومؤرخوها في سرد تفاصيلها الدقيقة، ينخرط العرض المصري في إبراز مأساة إفيجينيا العذراء، ابنة القائد أجاممنون، وتطلب منه الآلهة ذبحها كي تُطلق الآلهة الرياح وتُمَكّن الجيش اليوناني من شق عباب البحر نحو طروادة. وبعد صراع نفسي مرير، ومواجهة بين الأب وزوجته وابنته، توافق الابنة على التضحية وفاء وحبّا لبلادها.

 مسرحية فشلت في أن تكون عرضا ناجحا
 مسرحية فشلت في أن تكون عرضا ناجحا

سعى العرض، قدر جهده، إلى محاولة تعميق الحوار، وتحليل الشخصيات، للوصول إلى ما وراء هذه الأحداث من رؤى وفلسفات ووجهات نظر مغايرة، فواقعة هروب هيلين مع باريس (أو اختطافها بواسطته) تخفي بين طياتها عشقا صادقا متبادلا بينهما، وتعكس تضحية الأميرة بعرشها إرضاء لقلبها.

كذلك، فإن تضحية إفيجينيا ابنة القائد الشجاع أجاممنون بنفسها كهبة للآلهة من أجل الوطن، تصوّر قسوة الأب في تعامله مع ابنته، وتفضيله المجد على المحبة والأبوة، وتكشف الابنة عن حقيقة شعورها نحو أبيها وهو يسوقها إلى الموت “لماذا أضحّي بحياتي في حب هيلين، وأنا لم أجد الحب معك يا أبي؟”.

مشاعر مشحونة

هذه الشذرات الإنسانية الصغيرة، النادرة، التي التفت إليها عرض “طريق طروادة” بعفوية، أفضل ما فيه، وتخرج من السياق الحكائي العام المستهلك لتقدم كبسولات انفعالية خاصة من المشاعر المشحونة التي برع في تجسيدها بعض الممثلين الموهوبين، منهم الفنان أحمد مؤيد (أجاممنون)، كما في لحظات ندمه على قتله ابنته وثورته على نفسه، والفنانة نيرة (إفيجينيا)، كما في لحظات اتخاذها قرارها الصعب بالموافقة على الموت من أجل بلادها “جئت أضحي بنفسي لحفظ كرامة اليونان”.

لا يتشكل العرض من جسد مسرحي واضح، وبخلاف هذه اللقطات القليلة التي تتجلى فيها بعض العناصر المسرحية من صراع وحوار وحركة وأداء تمثيلي وعقدة يتم حلها سريعا، فإن بقية العرض لم تسلم من الفجوات والترهلات والتفكك، حتى على الصعيد اللغوي.

يمر العرض سريعا على أحداث كثيرة، يصعب إدراجها كلها خلال مدة العرض، وكأن المراد هو حشو أكبر عدد من صفحات التاريخ والأدب العالمي دون تحليلها والتعمق فيها، ودون ربطها بما يجري على المسرح.

من ذلك الأسطورة التي تعيد اندلاع حرب طروادة إلى نزاع بين آلهة الأوليمب، وصراع بين ربة الجمال أفروديت وربة الصيد هيرا وربة الحروب أثينا حول من فيهن الأجمل؟ حيث أدرج العرض هذا المشهد على نحو عابر، دون شرحه وتبريره وتوظيفه فنيّا.

أما في الأصل اليوناني، فإن صراع الربات الثلاث هو حدث جوهري، وقد كان الصراع مقدمة للاحتكام إلى أول غريب يرينه، وهو باريس. وقد ارتأى باريس في حكمه أن أفروديت هي الأجمل، فوعدته بأن تهبه أجمل نساء الأرض مكافأة له، وأرسلته إلى أسبرطة، حيث أغوى هيلين جميلة الجميلات.

أسلوب الراوي للتعريف بالشخصيات في بداية العرض جاء مدرسيّا بدائيّا، وأدى إلى إرباك المشاهدين، فالشخصيات متعددة فوق ما يتحمل العرض، والأسماء صعبة، وأغلبية الشخصيات بلا دور حقيقي. ويستند الراوي إلى أن المشاهدين لديهم خلفيات عن هؤلاء الشخصيات من خلال اطلاعهم على التراث اليوناني، الأمر الذي زاد من حدة الفجوات الدرامية في العرض، الذي يُفترض أنه ذو بناء مستقل.

ومضات نادرة

مسرحية ينقصها الكثير كي تصبح بناء مسرحيا مستقلا محكما
مسرحية ينقصها الكثير كي تصبح بناء مسرحيا مستقلا محكما

ينتصر العرض على طول الخط لإرادة الآلهة التي لا تتغير، في مواجهة إرادة البشر المحدودة والمحكومة، وهو ما يتنافى مع تلك الومضات النادرة التي يعلن فيها الإنسان عن نفسه، مطلقا طاقته السحرية من قلبه الصغير النابض.

أما حالة “الفخامة” التي حاول العرض رسمها، من خلال ضخامة الأحداث وجلجلة الحروب وفحولة الرجال وطنطنة الشعارات الحماسية والوطنية، فإنها جاءت مفتعلة حد الهزل، فاللغة العربية التي تمسّك بها العرض ركيكة ومليئة بالأخطاء النحوية على طول الخط، والمتحدثون لا يجيدون نطق الحروف بمخارجها الصحيحة، والأصوات ضعيفة وغائبة خلف زعيق الطبول والموسيقى التصويرية.

هذا “العبث” في نطق الإلقاء، وطريقته المنبرية، اتسق مع الفتور الانفعالي الذي لا تخفيه المبالغة في الأداء، وتقنية صدى الصوت السيئة التي حجبت سلاسة الاستيعاب. أما الحركة، فقد سادها البطء وعدم الاتساق مع الشخصية والحالة التعبيرية، فضلا عن النمطية في تمثيل شخصيات الكهنة والسحرة والجنود وغيرهم.

ويجسد مشهد المبارزة الختامي ذروة هذا الافتعال، وجرت المبارزات الثنائية بين المتحاربين بسيوف خشبية، وبأسلوب تلاميذي مضحك لا يليق بفرسان من بينهم القائد أجاممنون نفسه، الذي انتصر على الجميع، ثم لقي حتفه على يد زوجته، انتقاما منه على ما بدر منه بحق ابنتهما، لتنتهي المسرحية بالغياب الكامل للإنسان.

يمثل عرض “طريق طروادة” التفاتة متعجلة إلى صفحات الأدب والتاريخ، ينقصها الكثير كي تصبح بناء مسرحيّا مستقلا محكما.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *