الزمن في مسرح الصورة /د. فاضل سوداني

نشر / محمد سامي موقع الخشبة

يتميز ما يسمى بمسرح الصورة الاوروبي بإبراز البعد الميتافيزيقي واللامرئي في حلم الإنسان الأبدي فنيا. غير ان الموت في عروض مثل هذا المسرح يرفرف دائما كطائر أسطوري فوق رؤوس الممثلين والجمهور ومكونات المشهد، ومن الممكن ان ينقض في أية لحظة ليمارس وجوده العبثي، وبالرغم من هذا يستخدم الفنان في هذا المسرح حواس الجسد بكل حرية ويمنحها اقصى درجات التعبير عن همسها ووجودها، كفعل إبداعي لتشكيل اللغة التعبيرية من أجل الوصول الى أساليب مسرحية جديدة نكتشف من خلالها وفي آن واحد ديمومة المسرح البصري، وموت المسرح التقليدي الذِي يتأسس جوهرياً على ثرثرة الواقع الفوتوغرافي.

ومن هذا المنطلق يعتبر التعامل مع الجسد بصريا من قبل المخرج او الممثل فناً معاصراً ولغة ديناميكية لخلق الصورة المعبرة في فضاء الطقس المسرحي، ويعد هذا في حقيقة الأمر مفهوماً حداثوياً، إرتبط بالتحولات الإبداعية التمردية في القرن الماضي. لذا فإن الكثير من الدراسات والعروض والتيارات والتجارب المسرحية الأوربية أكدت وما زالت على تحقيق الجانب البصري في أداء الممثل او الرؤيا الاخراجية او سينوغرافيا الفضاء المسرحي، كلغة جديدة في الإخراج المسرحي، بدءاً من تجارب غوردن كريج وراينهاردت، ومايرهولد وأدلف آبيا ومخرجي مسرح الطليعة الفرنسين وانتهاءً بتجارب بيتر بروك وجوزيف شاينا وروبرت ولسن وليباج وكانتور وبينا باوش ويوجين باربا وأريان منوشكين والياباني تاداشي سوزوكي وكل ما يرتبط بتجارب مسرح الصورة الاوروبي عموما وبما فيها مسرح الصورة الدنماركي وبعض تجارب المسرح البصري العربي وخاصة تجارب المسرح التونسي.

انتونين آرتو.. الصورة والجسد

لقد أثر آنتونين آرتو ومفهومه حول مسرح القسوة والإخراج المسرحي الميتافيزيقي المعاصر في تشكيل صورة العرض في المسرح العالمي، حيث حاول آرتو اكتشاف لغة جديدة للمسرح بحيث (تكون قوة سحرية تستحضر ماوراء مملكة المنطق والكلمات أو ان توحي به) وبمعنى آخر ان المسرحية كنص يجب ان تكون منظورة بقدر أكبر مماهي مسموعة، ولذلك فانه ربط بين الميتافيزيقا والحلم والإخراج الذي يعدي كالطاعون، لان المسرح بالنسبة له (يجعلنا نحلم ونحن مستيقظون، ويكف أن يكون مسرحاً اذا تخلى عن هذه المهمة). ومن خلال هذا حاول أنتونين آرتوا أن يخلق مسرحاً ميتافيزيقياً يستبدل فيه الكلام المنطوق بلغة جسدية بصرية محسوسة وفضاء ضاج بالرموز لأنه يرى بان المسرح يؤثر على الحواس الأخرى وليس على حاسة واحدة.

إن حلم آرتو في خلق مسرح مرئي بوسائل بصرية يتحول فيه العرض إلى طقس أو شعيرة ويرتبط بالأحلام والرؤى التنبئية، كان له صداه في كتّاب ومخرجي المسرح المعاصر، ودفع بالكثير من الفنانين لتحقيق نظريته او حلمه الإبداعي مثل غروتوفسكي وبيتر بروك وجوزيف شاينا وكانتور ويوجين باربا وغيرهم من الذين خلقوا لغة الوجد التصوفوي في المسرح.

وهذا هو المنهج الفني والفكري الذي يعيد ديناميكية الإبداع الى المسرح المعاصر، وفي ذات الوقت يرفض شتى صنوف الإلتباس والجهالة والغموض المتعمد لدرجة الإستهتار بالقيم الإبداعية من اجل المنافع الأنانية الضيقة والأهداف السياسية التي تخلق شرور تجارة الفن الرائجة الآن وتخلق أيضا المناخ المناسب لعبث الجهلة والمزيفين تجار الفن الجدد على إشاعة الدلجة السياسية والخيانة الفنية في المسرح المعاصر عموما والمسرح العربي بالذات.

وضمن هذا المدخل فان جسد الممثل كوسيلة تعبيرية يعد خزينا مثيولوجياً بصرياً يرتبط بالأسرار العميقة من أجل الأبداع البصري وهذا يؤهله أن يحل بهذا الغنى المثيولوجي في جسد آخر (أي في الشخصية او الشخصيات الأخرى) بواسطة الذاكرة البصرية المطلقة لجسده، ويختلف هذا المفهوم عن ذاكرة الممثل المثيولوجية او عن التاريخ المسرحي بشكل عام، ففي هذا المجال يتحكم التاريخ كتراكم معرفي وفني ولكن هنا فإن التاريخ المطلق لذاكرة الجسد هو الأكثر أهمية.

هذيان الزمن في العرض المسرحي

وهذا ما كان واضحاً بقوة في عرض الهلوسات الأخيرة للمخرجين البلجيكيين نيكولا موسوكس وباتريك بونت الذي قدم على مسرح (كانون هالن) وسط كوبنهاكن، حيث كان هدف المخرجين هو خلق لغة تأويليه مرتبطة بمفهوم اللغة البصرية المطلقة للجسد. وقد قسما فضاء العرض الى عدة إطارات كأنها بؤر او مرايا مضيئة لانرى أي شيء فيها إلا في حدود الإطار وماعدا ذلك فان كل شيء غارق في الظلام كانه فضاء اعمى او سديم.

وفي كل هوة نرى ونسمع حركة وهذياناً جسدياً بصرياً ذا معنى تأويلي خاص. وبالرغم من اختلاف هذه الهذيانات (المشاهد)عن بعضها فكراً وايقاعاً وايحاء ولغةً، الا أنها متداخلة وتشكل وحدة هارمونية ذات معنى واحد. فهنالك الرجل الذي يتحدث مع سمكته بلغة يمكن أن نطلق عليها همس الجسد البصريحيث يكون لأصابع اليد لغتها الهامسة التي تضج بالتأويل السميولوجي.

وفي هوة أخرى (الإطار الآخر) نرى المرأة المتوحدة وكأنها تقرأ كتاب القدر بهمس أصابعها المتوهجة الذي يسري كالعدوى في جسدها فيذوب وجداً. والمرأة الغريبة الأخرى التي تذكرنا بأحد تماثيل ميكائيل انجلو والتي تشق الفضاء بجسدها وكأنها تحاول الخروج من ظلام روحها للتخلص من عماء الخطيئة السرية معبرة عن ذلك بحركتها المتقطعة العنيفة والمندفعة. ومن كل هذا نفهم وبوضوح بصري بأن هذه الهذيانات الخارجة من سديم مظلم تؤسس عرضاً بصرياً يعتمد كشف طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة كموجودات بشرية تؤثث الكون ولها لغتها وجمالها المثيولوجي ولذلك يُعبر عنها بهذا الهمس الجسدي البصري الغامض بينهما.

وفي مشهد آخر مشابه لهذا ومختلف عنه في ذات الوقت حيث يتحول همس الأصابع إلى ضجيج عندما تحاول المرأتان أن تفكا لغز جسد الرجل باستخدام أيديهن، وبحركة توحي بهوس المرأة الأبدي للالتحام بالرجل مصيريا. ومن جديد فإن المرأة الأولى التي كانت هائمة بتوهانها تهمس جسديا للسمكة التي تتراءى وكأنها ستظل طائرة إلى الأبد في فضاء هذه الهذيانات أو الطقوس مما يوحي باحساس غامض يدفعنا أن نسأل هل هو هذيان الإنسان أم هذيانات هامسة للمخلوقات الأخرى.

إن جسد الممثل هنا له لغته وهمسه الخاص وديناميكيته في الفضاء وهذا له علاقة بذاكرة الجسد البصرية المطلقة، فليس المهم في المسرح أن يتحول همس الحواس الى لغة محكية تنتج حروف وأصوات كما تعودنا في المسرح الواقعي التقليدي السكوني. بل ان لغة الهمس الجسدي يجب ان تكون مستقلة لها مفرداتها الخاصة حتى وان أدت بها للإرتقاء للهمس الميتافيزيقي البصري. وبالرغم من أنها لغة خارج منطق الكلام لكنها واقعية لها إيقاعها الذي يشكل صوتها وهمسها ومفرداتها التعبيرية، أنها قريبة من لغة الاحلام التي تتناقض مع منطق الواقع لكننا نفتقدها، وتتناسب مع واقعية وشاعرية الحلم البصري وقوانين ميتافيزيقيا ذاكرة الجسد البصرية المطلقة.

الهلوسات البصرية لآدم وحواء

ومن أهم المشاهد البصرية في هذا العرض هو الهذيان الجسدي والروحي بين آدم وحواء، فمنذ البدء نراهما عازمين على ممارسة الخطيئة بكل وعي وإصرار (سرقة الثمرة المقدسة – المستحيلة)لأن هذا سيمنحهما سر الوعي الجديد بالكون بما فيها معرفة أسرار جسديهما والإنغمار بعد ذلك بفردوس لذة الجسد بعيدا عن سديم السكون، أنها الرغبة في نفي الإنسان لذاته في كون آخر اوفي داخل ذاته.

ويتم هذا حينما تكون ديناميكية أجزاء الجسد وخاصة الأيدي هي التي تخلق تأويلا بصرياً ورمزياً وسميولوجياً لتأكيد رغبة آدم في اكتشاف الأسرار المستحيلة لوجوده والقوى الفاعلة والغامضة في جسده وروحه، وأسرار الكائن الآخر (حواء) الذي يلاحقه كقطب سالب وموجب في آن واحد لخلق تلك الشرارة التي ستقذفهم في جحيم الخطيئة التي ستخلق وعياً آخر وكونا آخر وأسراراً جديدة للتمرد وسينغمر الانسان في حل ألغازها، وستلاحقه اللعنات المكررة حتى بعد مماته.

فتاريخياً نعلم أن حواء هي التي دفعت آدم الى هذه المغامرة التمردية ـ الوجودية ليس لأنها شيطان أنثوي وإنما قطب يبحث عن المعرفة في فضاء الجنة، مما يدفعنا هذا على أن نقرأ الفضاء الهذياني في هذا العرض بأن آدم كان يمتلك الرغبة المترددة في خوض مغامرة تمردية أي هذه المعرفة ـ الخطيئة مادامت تحمل اسراراً جديدة. بالرغم من أن حركة آدم المرتبكة وخاصة اصابع يديه توحي بقلقه وخوفه (لأنه يعلم حجم التمرد الذي يؤدي الى العصيان) ولكن توحي أيضا ً برغبته المشتعلة بالشهوة التي ستمنحهما ثمرة الخطيئة ـ المعرفة، لكن من خلال حركة إيحائية نعرف بأن الإثنين متفقان على ارتكاب الخطيئة لإمتلاك المعرفة الكاشفة لإفق بشري جديد والتي تبتدأ باشباع أسرار شهوة الجسد.

ولكن الإيحاء الحركي – البصري لحواء في اغراء آدم كان أكثر اصراراً لإنها غريزياً كانت تشعر بالنتيجة (شهوة الجسد ولذته وتفتح البصيرة – أنها لذة الحياة)، لذا فان فعلها تكثفَ في دفع آدم الى لذة الاكتشاف. ونرى هذا بصريا من خلال ذلك التيار الكهربي الذي يسري بين جسديهما بدون ملامسة اولاً، لكن في الوقت الذي تلامس فيه أصابع حواء موطن أسرار لذتها (عضوها التناسلي) يتسارع الإيقاع المعبر لأصابع يدي آدم المترددة، لكنها توحي بالفرح والإصرار والرغبة العنيفة لإمتلاك ثمرة المعرفة وحصان الشهوة الناري والحياة المتوهجة المرتقبة. هذا الانفعال الجسدي المنعكس من خلال الخزين البصري لذاكرة الجسد لابد ان يكون له تأثيره على فعلهما ليس الجسدي وانما النفسي أيضا. وللتعبير عن امتلاكهما لثمرة الخطيئة يلتحم جسديهما لكن بلمسة او لدغة سريعة توحي وكأن لعنة تنزل على جسديهما كالصاعقة فيتكهرب الجسد، ويصاب فضاؤه باللعنة تاريخياً وحاضراً مما يؤدي الى قشعرية بين المتفاعلين من الجمهور.

وتحاول حواء التكفير عن خطيئتها والتخلص منها ومن ذلك الدبيب الذي ينهش يديها كذكرى ملعونة. فتقلق مرعو بة لانها لا تعرف ما الذي ستفعله بهذه الثمرة الملعونة، سوى ان تتلصص على تلك المرأة، القوة، الخالقة المتحكمة والرابظة بلا مبالاة كاللبوة (وقد تكون هي الافعى التاريخية) تنظر الى الثمرة الملعونة وبالتأكيد تفكر بخطيئة الانسان والويلات التي ستلاحقه في عالمه الجديد كمنبوذين في أفق الصحراء.

ونستطيع ان نلاحظ بان المخرجّين في هذا العرض استخدما همس حواس الجسد كمفردة في لغة بصرية لأنهم كانا يبحثان في البعد الماورائي للوصول الى موسيقى الجسد البصري للتعبير من خلال همسه وعنفوانه عن المشاعر الداخلية اللامرئية للممثل التي تظهر خارجا كالحيرة والغضب والقلق والحزن والحسد والفرح او التفكير وغرائز الجسد الخ والمشاعر المتناقضة الأخرى.. وأستخدام أعضاء الجسد في فضاء التعبير هي لغة يمكن ان نكتشف جذورها وأصلها في الدثرامبس الإغريقي الأرتجالي الأول ومسرح كاتاكالي والرقص الهندي.

وخلاصة القول أن الضرورة الإبداعية تحتم التعمق في ماورائية الواقع ويتم هذا من خلال ديناميكية الزمن الإبداعي في فضاء ميتافيزيقي، لان هذا الزمن بالذات هو الذي يشكل الرؤيا الشمولية لذات الفنان الواعية والمبدعة من أجل خلق صورة العرض البصري المسرحي.
(السويد)

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *