الخادمات” في أمستردام حفلة تنكرية بتأويل معاصر / صالح حسن فارس

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

كم نحتاج إلى مفاتيح للولوج أو الغوص في عالم “جان جينيه” الغريب، المثير، والمدهش، كي يتسنى لنا أن نتوغل في عالم ابطاله. في جل أعماله المسرحية ينزع أبطاله قناعهم وتتضح

شخصياتهم الحقيقية، لاسيما في مسرحية “الخادمات”. يقول الكاتب اللبناني “شكيب خوري” عن “جينيه” وأعماله، في كتابه “الكتابة وآلية التحليل” انه: (شاعر الادوار ومسخ الشخصيات، ويجد لذة، بنزع الأقنعة كي يكتشف عُرينا النفساني، كُتبت مسرحياته لمسرح طقوسي، لمراسيم احتفالية مهيبة. إنها تقف في منتصف المسافة بين القداس المتسامي والسحر لأغراض شريرة، خطان متوازيان يرسمان المسافة بين الخير والشر).

بطريقة معاصرة، قُدمت مسرحية “الخادمات” وبزي جديد يرتديه أبطال فرقة أمستردام المسرحية، من إخراج المخرجة الانكليزية كاتيا ميشيل Katie Mitchell، على مسرح المدينة “ستادس سخاو بورخ” في العاصمة الهولندية أمستردام. أدى الممثل “توماس كامارات” دور السيدة، والممثلة “ماريكا هيبنك” بدور سولانج، و الممثلة “كرس نتفيلت” بدور كلير.

لنقل القصة إلى عصرنا الراهن، اختارت المخرجة أن تكون الشقيقتان “كلير” و “سولانج” قادمتين من اوربا الشرقية (بولندا) يعملن خادمات أكثر من عشر سنوات في منزل فاخر كبير وأنيق لسيدة ارملة ثرية برجوازية من اوربا الغربية. كل ليلة يمثلن دورالسيدة والخادمة في غيابها، حينما تخرج السيدة تبدأ اللعبة في تبادل الأدوار، ويخططن لقتلها، من أجل استعادة حريتهن وكرامتهن المنتزعة. ما بدأ كلعبة بريئة تحول تدريجياً وبهدوء الى كارثة فعلية، حيث يتشابك الخيال بالواقع وتصبح النتيجة قاتلة. هذا ما يحدث في مسرحية “الخادمات” للشاعر والكاتب الفرنسي الصعلوك، المتشرد، والمتمرد، “جان جينه” 1910- 1986، مستوحاة من قصة حقيقية، اقتنصها من خبر نُشر في الصحافة، حينما حدثت جريمة قتل في باريس عام 1933.

ثلاث نساء عانسات يعشن عزلة، في بيت كبير يضيق عليهن، يعانين من خواء عاطفي. خادمتان بائستان يعشن على هامش الحياة، وهبتا نفسيهما لخدمة سيدتهن المفتونة بنفسها. لكل امرأة حكاية، ولكل حكاية خطوط متشابكة ومعقدة. مسرح الأحداث غرفة نوم السيدة وسريرها، حيث تبدأ وتنتهي الأحداث فيها. غرفة النوم هي وعاء الحكاية التي تختبئ فيها الاسرار وتتناسل، ثم تتأزم وتنتهي بجريمة قتل، حين تتماهى الخادمة مع سيدتها. تتداخل الأدوار بين الواقع والمتخيل، لتكشف لنا زيف وخداع الخادمات، وانعدام الثقة بين السيد والعبد ومظاهر العنف والشر.

العرض

تُفتح الستارة لتكشف لنا غرفة نوم كبيرة وانيقة مع ملحقاتها، في منتصف عمقها سرير نوم فارغ، ينتظر أحداً ينام، أو يموت عليه، كما سيحدث في العرض لاحقاً، لوحتان معلقتان على الحائط لمناظر طبيعية جامدة تشبه حياة السيدة وخادماتها، مرآة، كرسي، زهور صناعية، خزانة ملابس فاخرة وتعتبر مقدسة لدى السيدة، ملابس داخلية، سوتيان، قفازات، بدلات، فساتين انيقة، مجوهرات، باروكات شعر متنوعة الالوان، احذية، اكسسوارات.

خادمتان “كلير” شابة في منتصف العمر، تجلس على كرسي في غرفة النوم مقابل المرآة تضع المكياج على وجهها، ترتدي اجمل وأبهى فستان، تتهيأ أن تمارس دور السيدة، أما الثانية “سولانج” فامرأة كبيرة السن، شاحبة الوجه، ترتدي ملابسها اليومية البسيطة لتلعب دور الخادمة. تلتقط الصور بالهاتف النقال للاثاث والملابس، لكي تستطيع إعادتها بعد نهاية تبادل الادوار إلى ما كانت عليه، قبل وصول السيدة. المكان في هذا العرض يشكل محورا رئيسياً، والإنسان مركزه، حيث يتم كل شئ في طقوس مهيبة.

موسيقى ضربات على البيانو، وكأنها تأتي من بعيد، للموسيقار العالمي “شوبان” تقطع الصمت، ثم يأتي سعال الممثلة “كلير” ويستمر طيلة العرض المسرحي تقريباً، ويتضح لاحقاً انها مصابة بالربو. يبدأ العرض المسرحي بايقاع سريع مشوب بالخوف والحذر والتوتر، والغموض والترقب. الإضاءة عبارة عن مصابيح معلقة في غرفة النوم، لتبدد حياتهن المعتمة، وفي بعض الحوارات تصبح الاضاءة شبه معتمة حين تتكلمان باللغة البولندية، تزداد العتمة وينعدم الضوء تقريبا، وكأننا نرى أشباحاً، هذا هو مكانهما الحقيقي الذي لا مفر منه. ثمة نافذة في الجهة الاخرى تطل على الشارع يأتي منها الضوء، يترقبن منها قدوم السيدة أو بائع الحليب الذي تعشقه إحداهما في خيالها. تحتفل الخادمتان بغياب سيدتهن وتلبسان ثيابهما في غرفة النوم كأنهما في حفلة تنكرية، تبدلان ملابسهما وتستعدان للحفلة، حيث تتحول غرفة نوم السيدة الانيقة جدا، الى عالم من الفوضى، كأنها غرفة مكياج وأكسسوارات، وتخططان لقتل السيدة، بدس السم في كوب شاي.

تقول الممثلة “كلير:

(وهذه القفازات، هذه القفازات الملازمة لنا! قلت لك دائما أن تتركيها في المطبخ…).

بهذه الجملة يبدأ العرض على لسان الخادمة “كلير”، باللغة البولندية حيث تظهر الترجمة إلى اللغة الهولندية على الشاشة، ربما أرادت المخرجة للتأكيد على أصول الخادمات القادمات من منطقة شرق أوربا، زمن الفقر والحرب، بعدها يأتي الحوار باللغة الهولندية، ولكن بين الحين والآخر نسمع حواراً باللغة البولندية، في طقس يشوبه القلق والخوف يتم فيه تبادل الادوار، يبدأ اللعب واحدة ترتدي ثياب السيدة، والاخرى ترتدي ثياب الخادمة. تفضل الخادمة “كلير” دور السيدة. ويتم التناوب بالأدوار بنيهما. الأختان بالرغم من أنهما تختلفان الإ أنهما يلتقيان في الهدف، الأولى “سولانج” تسعى للذل والمسكنة، والثانية “كلير” متسلطة. وهذا يتجسد في الحوار على لسانها  تقول: “اغمريني بالكراهية، وبالاهانات، وبالبصاق..”.

يرن جرس المنبه منذراً بقرب قدوم السيدة، يتم ترتيب الادوات كما كانت عليه وترتيت الغرفة بشكل سريع. تظهر لنا السيدة الذي يلعب دورها الفنان الشاب “توماس كامارت” حيث ارتات المخرجة أن تجعل السيدة عبارة عن رجل فاسق شاذ متحول جنسياً إلى امرأة، امرأة، قاسية، متسلطة، وكأن المخرجة تريد أن تُلقي باللوم على الرجال. تستمر سلسلة طويلة من الأحداث البوليسية المرتقبة التي لا تخلو من الدهشة الترقب، التشويق، وعنصر المفاجأة، بشكل يقطع الانفاس، كأننا نتابع مشهداً في فيلم بوليسي وننتظر من هو القاتل.

على هذا النحو يستمر العرض حيث نرى معركة حقيقة داخل كل شخصية بين ذاتها الحقيقية والأخرى المتخيلة. حين تلبس الشخصية القناع، تبوح بأسرارها، حقدها وكرهها الدفين للسيدة، صراع مع النفس من أجل إظهار الحقيقة. الحقيقة هي الشخصية كما يقول الفيلسيوف الدنماركي “كيرغيغارد”.

الممثلون في هذا العرض كأنهم ذاهبون إلى حفلة تنكرية، يرتودن أزياء وأقنعة جديدة. اداء بديع ورشيق بعيدا عن التكلف والمبالغة، صادر عن فهم عميق للشخصية والحوار. من الوهلة الاولى تمسك بنا المخرجة بقوة، دون ان نتوه أونشعر بالملل. الدهشة هي عنصر أساسي في الابداع الجمالي كما يسميه “ارسطو” فإن هذا العرض يمتلك دهشة وإبهاراً، على صعيد الشكل والمضمون. تغوض المخرجة في أغوار النص وأعماق الشخصيات الثلاث، لتفكيك بنية هذا العداء التاريخي بين السيد والعبد وإعادة صياغته من جديد، وتشرحه لنا على المنصة بخبرة ودراية، وتقدمه لنا على طبق صاف وأنيق، تفك رموزه المعقدة، وتدخلنا في حياة الخادمات وعوالمهن السرية.

نحن امام مسرحية كأنها معزوفة سمفونية موزعة على مقاطع صغيرة، مثل دفقات. ركزت المخرجة على لغة الجسد الرشيقة للممثلين وتعبيراته البليغة طوال العرض. انها تملك رؤية كاملة في ادواتها الاخراجية، ووعياً بالدلالات المشهدية والحركية، كما تعتمد على اعادة صياغة الاعمال الكلاسيكية وتلميعها. وحسب الصحافة الهولندية يعتبر عملها هذا مجدداً، مثيراً للجدل وراديكالياً من وجهة نظر نسوية. فلم يقتصر العرض على معالجة الموضوع الأصلي للنص، الصراع الطبقي بين الخدم والسادة، بل تناول مواضيع راهنة مثل الهجرة، الجندر والسلطة.

لا تستطيع الخادمة “الشرقية” أن تدخل عالم المرأة الغربية ولا أن تخرج منه، تنظر اليه من خلف النافذة، تبقى أوربية شرقية فقيرة. فقتل السيدة والهينمة على ثروتها ما هو الا تعويض عن مكبوتات جنسية وضآلة هامشية في المجتمع والذات.

وبهذا ينهي “جينه” مسرحيته بجريمة قتل. لكن إحدى الخادمات تقتل أختها بدلا من قتل السيدة. اثناء لعبهما دور السيدة والخادمة، تقع الاخت في المطب الذي وضعته لقتل السيدة، تموت الخادمة على سرير السيدة وينتهي العرض وتسدل الستارة على جريمة كانت بدايتها مزحة.

تقول المخرجة “كاتيا ميتشيل”عن عملها: “بالرغم من مرور أكثر من سبعين عاماً على عرضها الأول في باريس، لكن القصة ما تزال راهنة، أذا نظرنا إلى عدد النساء من البلدان الفقيرة التي تعمل مع النساء الثريات للطبقة الوسطى من اوربا الغربية، فإن المسرحية تتحدث عن عصرنا الحالي”

*فنان مسرحي عراقي يقيم في أمستردام

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *