الحيل الثقافية في نص (كايميرا) المسرحي للمؤلف عمار نعمة جابر – د.أمل الغزالي #العراق

الغزالي
أمل الغزالي – العراق

      عمار نعمة جابر مؤلف عراقي لأكثر من ستين نص مسرحي. حين تتعمق في نصوصه تجده منشغلا بنقد المؤسسات المنتجة للثقافة، التي تروض العقل والذوق والسلوك وتسبغ على الثقافة صيغا نمطية وتصطنع قيما ثقافية هزيلة امتدادا لكشف المسكوت عنه.
ويعد النقد الثقافي فرعا من فروع النقد النصوصي العام. اذ انه احد فروع اللغة وحقول الألسنية معني بنقد الأنساق المضمرة في الخطاب الجمالي الثقافي، وغير معني بكشف الجمال، بل بكشف المخبوء تحت الأقنعة الجمالية, فالنصوص الأدبية بالغة التعقيد والأعقد منها “حرفة القراءة” التي تلعب دورا هاما في تفسيرها الا أن ذلك لا يعني ان النصوص الأدبية تخلو من تركيبات داخلية او خفية من المتضادات التي تهب المعنى. 
فالقراءات النقدية التقليدية قد افضت الى نوع من العمى الثقافي ولابد لها أن تنبذ القيود وتنخرط في كشف العيوب النقدية المختبئة في النص او خلفه، خروجا من الانغلاق النصي لاستكشاف انماطا معينة من الأنظمة والاشكاليات الايديولوجية..
وقد نجح المؤلف عمار نعمة جابر في نص “كايميرا” في اظهار النسق الواعي باستخدام التورية للنسق المضمر بتغطية القصد منه وإظهار غيره، اذ أظهر البرودة التي يأتي بها الشتاء بمنحه الضعف والخذلان والانغلاق عن العالم الخارجي ليتحول الى صندوق مظلم ومغلق، كقبر فيه تغسل جباه الموتى من وحل الحياة، بولادات الغيوم المتعسرة الكثيرة الحداد.
وبقي النسق المضمر مخبوءً بين طيات النص المسرحي مسكوتا عنه بتلك الطقوس الحزينة المكبوتة المعلنة للحداد، وبحركات اللطم على الصدور والوجوه ذلك الإرث الحضاري الملتصق ببنية الانسان قديما والذي لا يهبنا سوى استهلاك القوة واستهلاك الحياة بانقياد جمعي نحو الهلاك المخبوء بطقوس باردة معلنة في ليال طويلة الوحشة وثقيلة الظل، تتضاد الاحداث على يد الداعية للحداد حين ينقلب النهار ليلا وتعلو أصوات الغناء محولا العفة الى عري عاهرات والهدوء المميت الى موسيقى صاخبة وحركات اللطم الى حركات الحياة المتلونة الراقصة على اوتار جيوب الاغنياء بنسق ظاهر ومدرك بوصفها للصيف الخليع الذي يكوي دواخلنا بعنف حد الثمالة، التي لا تشبه ثمالة الشتاء الحزينة في الانتشاء, ليبرز نسقا متواريا، يبرر طقوس الحياة بالمتعة والانطلاق بعيدا عن ماهو مغروس في دواخلنا من قيود غابرة دون اكتراث بالثقافات المجتمعية السائدة .
جعل المؤلف انساقه المضمرة وحيله الثقافية مفهوما مركزيا امتلكت فيه الثقافة انساقا خاصة بها هيمنت عبر التخفي وراء الأقنعة السميكة، واخطر هذه الأقنعة هو قناع الجمالية الذي يخفي تحته نسقا مضمرا غير جمالي , اذ سوق المؤلف المخبوء تحت كل جمالي مضمر نسقي بالنص عمل على التعمية الثقافية , لكن بقيت الانساق فاعلة مستترة ومستديمة من تحت القناع بحرفية عالية تحسب لإبداع المؤلف , فالنواعي عبارة عن نصوص ادبية تمتلك جمالية خاصة ومؤثرات ايديولوجية راسخة بالذات الانسانية محفزة للمشاعر الجمعية بعدها ارث تاريخي منغرس فينا , وهذا القناع الجمالي غطى الانساق المضمرة والناقدة لهذه الممارسات الطقوسية ليكشف الجميل المعلن عن اشياء غير جميلة بالانجرار نحو البكاء الهستيري بطقوس واعية لتتحول الى اخرى غير واعية ولا مدركة تعينها على احتمال الحياة وتفريغ المآسي بالبكاء والألم بدلا من العمل والتمتع بالحياة..
الا انها تمارس هذه الطقوس بكل رضا ورغبة وذوبان الاخريات ليكون النسق المضمر ناسخا للنسق الواعي غير خارج عن النسق الثقافي مستخدما الجمالي لتمرير الفعل اللاطم العمومي والراسخ ليكون ضاربا في الذهن الاجتماعي والثقافي اما النخبوي المنعزل عن الخطاب الجماهيري بوصفه حادثة ثقافية غير جماهيرية , فقد عمل المؤلف باجتهاد بالابتعاد عنه فشمل خطابه النصي على نسقين احدهما ظاهر ثقافي واع، واخر نسقي مقنع بالجمالي والبلاغي لتمرير نفسه وتمكين فعله في التكوين الثقافي للذات الثقافية للامة، اذ انهما يحدثان معا في آن واحد، على ان يكون المضمر غير مناقض للعلني كي لا يخرج من مجال النقد الثقافي والانساق المضمرة ناسخة للعلنية..
فالثقافة لديه تتوسل بالجمالي ليكون المضمر اكثر ثراءا من النسق الواعي لانه يمارس فاعليته في بنية النص بوصفه نظاما علائقيا فوقيا متعاليا محملا بمرجعيات ثقافية وايديولوجية باطر معرفية جمعية بأتكاء النسق في سيرورة وفاعلية على محددات اللغة والثقافة وافعال فردية تدل على التقاء التاريخ بوصفه احلالا واعيا بادراجه لطقس اللطم او تصحيحا مضمرا بالكشف عن قباحة الألم والاذى الذي يلحق بالذات الانسانية ليكشف عن الثقافة التي احتال علينا المؤلف في تمرير انساقها المضمرة بذكاء محترف..
امتازت الانساق المضمرة بهيمنتها وغلبتها وعلاقتها مع الجمهور المندفع الى استهلاك المنتوج الثقافي بلحظات فعل نسقي مضمر يكشف وسائل الوصل الجمالي يستقبله الجمهور لتوافقه السري مع نسق قديم منغرس فيه فهو ليس طارئا بل جرثومة تنشط اذا ما وجد الطقس الملائم , فرسوخ طقوس اللطم واستهلاكها الجماهيري يوصل المتلقي الى لحظات النسق الثقافي المضمر اذ انه هيأ طقسا ملائما بنسق واع ذي معرفة ليخبيء نسقا مضمرا غير طارىء تم تحفيزه عن طريق ابيات النعي للمرأة بجماليتها المقنعة التي اشعلت الشتاء باجساد المعزيات اللاتي تقافزن باللطم، ودارت اجسادهن المتألمة من ضرب الصدور والوجوه حول حلقة الملطم في كتلة واحدة تفوح منها اصوات تشبه صرخات العواء الموجوع كما تألق في وصفها المؤلف, ليظهر لنا الصورة غير المزيفة للحالة , الصورة الموجعة للذات الانسانية فيكون النسق المضر اكثر ثراءا من المعلن مبررا التقوى والعهر في آن واحد , اذ انه طرح الرقص والسكر والمجون بممارسة نصفها الساخن بجودة توازي، او تفوق ممارسة نصفها البارد واصفا خبرتها في تمييز العاهرات والموسيقى ونوع الخمور بل حتى الخطاب الجمالي الحركي كان اكثر اناقة وانوثة ورقة لتهيء طقسا ملائما للكشف عن انساق النص المضمرة فيه او تحت قناع الجمالي .
تمتلك التورية الثقافية المعنى القريب والبعيد ليمثل القريب متنا جماليا بدلالات متعددة ومجازات وتأويلات مختلفة في منطقة الوعي المعرفي والعقلي , والازدواج الدلالي بين بعيد وقريب يسعى المؤلف بواسطته الى تأسيس تصور عن حركة الانساق الثقافية في بعديها المعلن والمضمر , بان يكون النسق المعلن قد خدم نقديا وعلى نطاق واسع والغفلة عن الانساق المضمرة مع جليل اثرها حتى صار عنصرا نسقيا يتلبس الخطاب ورعية الخطاب من مؤلفين وقراء، والكشف عنه يتطلب ادوات خاصة كالتورية الثقافية أي حدوث ازدواج دلالي احد طرفيه عميق ومضمر اكثر فاعلية وتأثير..
وقد امتهن المؤلف التورية الثقافية بمزجه بين المعنى القريب والبعيد بين الجمال القريب وحركة الانساق ببعديها المعلن والمضمر حين أوضح بنية شخصية الاب في ارتكابه الأخطاء والهروب من العقاب بارتداء قناع الطفولة والبراءة ، بيد انها لم تقوى على ان تصبح كأبيها لذا تصاعدت الصراعات داخلها لتتلوث بالطمع والجشع والاستغلال فيبرز المعنى البعيد في الحالة المرضية للتقاليد والأعراف التي تعاقب المرأة على فعلتها وتثيب الرجل على الرغم من ان الفعل المحرم حدث بتكامل كليهما معا في حادثة تبادل القبل بينها وبين حبيبها أيام الدراسة الجامعية , ليتحول المعنى القريب من مجرد عقاب على حالة غير مرضية للأعراف والتقاليد الى معنى بعيد يمثل حالة اجتماعية أبوية مسيطرة على الفعل الجمعي متوارثة مهيمنة ومتغلغلة في الفكر المجتمعي تجيز للأستاذ ( الرجل) مراودة الطالبات ( النساء ) عن شرفهن مقابل درجة النجاح ليكون عفيفا في المعنى القريب وعاهرا في المعنى البعيد يحمل المعنيين كليهما في آن واحد وهذه قمة العهر.
فيتسع افق المعنى ويبتعد اكثر الى اختلال في موازين الشرف والقيم الاجتماعية ليتحول الامر الى آفة اجتماعية لابد من الاعلان عنها ثقافيا بنقد المؤسسة الناتجة لها بانساق مضمرة حطمت مرايا المسكوت عنه في معاناة المرأة وتبعيتها للرجل وحالة الانسان المزدوجة فكريا وعقائديا وقيميا بسبب ثقافات قديمة راسخة ومضمرة يتهيأ لها طقسا خاصا كي تنمو وتبرز على السطح باقنعة جمالية تخبيء القبح.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش