الحوت الأبيض يجتاح متفرجي المسرح

رياض عصمت – الحرة 

 

قاربت السينما رواية هرمان ملفيل (1819 – 1891) “موبي ديك” عديداً من المرات، لكن مقاربة هذه الرواية الملحمية في المسرح أمرٌ نادر الحدوث، لم يسبق لي أن سمعت به من قبل. في عام 2014، انطلق عرض مسرحي تجريبي من قسم المسرح في جامعة “نورث وسترن” من اقتباس وإخراج ديفيد كاتلين، ما لبث أن انتقل مخرجه به من طاقم التمثيل الطلابي إلى طاقم محترف لفرقة “لوكينغ غلاس” Lookingglass الطليعية. قام العرض بجولة واسعة في أرجاء الولايات المتحدة خلال عامين قبل أن يعود إلى مسرحه في وسط شيكاغو ليحظى بإقبال كثيف وإعجاب فائق. بالتأكيد، فإن رواية هرمان ملفيل الملحمية الشهيرة عن الكابتن إيهاب المهووس بالانتقام من حوت أبيض عملاق أفقده ساقه، رواية فريدة ورائدة من روائع الأدب الأميركي. لا يكاد ينسى طالب أميركي الجملة الشهيرة التي يفتتح بها ملفيل روايته على لسان راويها: “اسمي إسماعيل”.

يعتبر هرمان ملفيل أحد أبرز من أرسوا ملامح فن الرواية الحديثة في العالم، سواء في رواياته الاجتماعية مثل “مول فلاندرز”، أم في رواياته عن البحر مثل “بيلي باد” (التي سبق ومسرحت كثيراً من قبل)، أم في أعماله الأدبية الأخرى عن الجزر النائية وعادات القبائل غريبة الطباع التي تقطنها، مثل روايته “تايبي”. لكن رواية “موبي ديك” الملحمية تبقى إنجازه الأضخم والأعظم، والعمل الأدبي الذي ألهم مخرجي السينما والتلفزيون عديداً من الأعمال الفنية على مرِّ السنين.

جدير بالذكر، أن أول المقاربات السينمائية كان فيلم “موبي ديك” (1930) من إخراج لويد بيكون وبطولة جون باريمور. ثم جاء الفيلم الأكثر تميزاً عن رواية “موبي ديك” (1956)، وكان من إخراج جون هيوستون وبطولة غريغوري بك. ثم قاربت الدراما التلفزيونية رواية “موبي ديك” (1998) في عمل متوسط النجاح لعب بطولته باتريك ستيوارت، ثم في عمل تلفزيوني آخر أقل نجاحاً (2011) لعب بطولته وليام هارت وإيثان هوك. ما لبثت الرواية أن اقتبست بعدها في فيلم حديث في عام 2010 استبدلت فيه سفينة الصيد الشراعية بغواصة متقدمة تقنياً، لكن ذلك الفيلم باء بفشل ذريع. ثم أنتج فيلم “في قلب البحر” (2015) من إخراج رون هوارد وبطولة كريس همسورث وسيليان مورفي وبن ويشو. اعتمد الفيلم على كتاب مؤلف يدعى ناثنيال فيلبريك، سعى فيه إلى نبش أصل الحكاية التي ألهمت ملفيل كتابة روايته الشهيرة. فماذا عن المسرح ذي الإمكانات المحدودة؟ وكيف يستطيع تجسيد قصة صيد حوت عملاق في عرض البحر؟

يتطلب المسرح لغة خاصة، ولست أعني هنا لغة الكلام، بل لغة التعبير البصري كفن مستقل الملامح، ومختلفٍ اختلافاً بيناً عن الأدب من جهة، وعن السينما والتلفزيون من جهة أخرى. فما بالنا إذا شاء المسرحي مقاربة عمل أدبي ضخم عن مطاردة سفينة صيد لحوت أبيض عملاق؟ يتميز المسرح الحديث بالتقشف، وهي سمة جعلت الجمهور يقبل على مشاهدة عروضه باستمتاع مغاير عن الاستمتاع بمشاهدة الأفلام ذات الإقناع المشهدي الضخم. بالتالي، لا بد أن يقارب المسرح الأعمال الأدبية الكبرى بصورة مبتكرة، خلاقة وغير مألوفة. أدرك المخرج والممثل ديفيد كاتلين هذه الخاصية المسرحية، وهضمها جيداً، ثم خرج بتصوره المبدع لتحويل “موبي ديك” إلى عرض مسرحي أخاذ. بنى له مصمم الديكور كورتني أونيل ديكوراً متقشفاً يشبه هيكلاً عظمياً لحوت نافق، تلاعب فريق أكروباتي من المؤدين/الرياضيين صعوداً ونزولاً على عظامه لتجسيد مشاهد الإبحار على متن سفينة صيد الحيتان المبحرة في خضم المجهول في مطاردة مجنونة لحوت أبيض عملاق، فسره كثير من النقاد رمزياً على مرِّ العصور. بالمقابل، جسدت الحيتان في العرض المسرحي ثلاث ممثلات يغنين كأنهن حوريات بحر، مضفيات جواً طقسياً ساحراً على العرض. تبادل الممثلان والتر أوين بريغز وجيمي آبلسون أداء دور إسماعيل، راوي الأحداث، بينما جسَّد الممثل كريم بانديلي شخصية ستاربك البحار الأسمر ذي الطباع الغريبة، الذي يحمل تابوته معه على متن السفينة. أما دور الكابتن إيهاب، فأداه بحضور لافت الممثل ناثان هوسنر، المخضرم بالأعمال الشكسبيرية منذ دراسته للتمثيل في “الأكاديمية الملكية” في لندن.

لعبت الإضاءة التي صممها وليام سي. كيركهام دورها في تكامل جماليات العرض الأخاذ والممتع. ابتعد المخرج/المعد ديفيد كاتلين عن الإغراق في تصوير الكابتن إيهاب كشخصية غريبة الأطوار، ونحا نحو جعله بطلاً تراجيدياً زلته الكبرى هي هوسه في الانتقام الذي يؤدي في النهاية إلى مصرعه. ولعل من أروع لحظات العرض تلك المواجهة بين الصيادين والحوت العملاق في النهاية، حين تمرر فجأة ستارة بيضاء فوق رؤوس المتفرجين جميعاً لتغمرهم بالدهشة والقشعريرة وتضعهم في خضم الحدث. إنها نهاية منسجمة مع رؤيا المخرج الحافلة بالحلول البصرية الخلاقة لمشاهد طقسية الطابع، بحيث يخالها المرء مستحيلة التحقيق على المسرح، فإذا بالمخرج المبدع مع طاقم ممثليه الرياضي القدير يجسدها بقدر كبير من التاثير والمتعة. عرض فرقة “لوكينغ غلاس” لرواية “موبي ديك” في العام 2017 عرض مسرحي متميز بتصوره التجريبي ومشهديته المسرحية الخلابة.

————————————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *