التأليف الجماعي يجدد روح المغامرة في المسرح العالمي / أبو بكر العيادي

 

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

  • ما يلفت الانتباه في العروض المسرحية العالمية لعام 2017 الذي شارف على الانتهاء، برغم العروض المتعددة في مسارح باريس والمدن الفرنسية الأخرى، تضاؤل عدد المتخصصين في التأليف المسرحي، ما يدفع الفِرق إلى الاتكاء على الرصيد الكلاسيكي، القديم والحديث، أو التأليف الجماعي أو تحويل نصوص سردية لكتاب معروفين، وقد ركزنا في هذه الورقة على التجارب التي تميزت بالقطع مع السائد وروح المغامرة، لارتياد أساليب مسرحية جديدة، تعتمد على الكتابة الركحية وجدة الإخراج.

لا يزال شكسبير وموليير وراسين وكورناي وسواهم من الكلاسيكيين حاضرين كالعادة في المسرح العالمي لسنة 2017، إلى جانب أسماء أخرى ذات تجربة متميزة كالفرنسيين جان أنوي وبرنار ماري كولتيس وياسمين رضا وإريك مانويل شميت، والألماني جورج بوشنر، والنمساوي توماس برنار، والروماني يونسكو، والأيرلندي بيكيت.

ولكن تواصلت ظاهرة تحويل نصوص سردية إلى أعمال مسرحية، كـ”غرام سوان” لمارسيل بروست، و”نوفيتشنتو” للإيطالي أليسّندرو باريكو، وخاصة النمساوي ستيفان زفايغ الذي اختيرت أغلب قصصه لتقدم في شكل أعمال مسرحية أمثال “لاعب الشطرنج”، و”رسالة من مجهولة”، و”الخوف”، و”أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة”، أما العروض الباقية فكانت من تأليف المخرجين أنفسهم مثل “بين الجدران” لألكسيس ميشاليك، و”نوتة نشاز” لديدييه كارون، و”حالة مارتن بيش” لجاك موجنو.

أعمال فرنسية

“بين الجدران” لألكسيس ميشاليك هي مسرحية تدور أحداثها في زنزانة، عن مخرج يأتي إلى السجن لتقديم درس في المسرح، ولكن ليس بطريقة عمودية، بل بإتاحة الفرصة للسجناء كي يتحدثوا عن أسباب اعتقالهم، وعلاقتهم بالزمن، وبالفضاء الذي يفصلهم عمّن هم خارجَه، ولكنه لم يجد في انتظاره غير سجينين.

ويبدأ الدرس بكيفية يتباين فيها سلوك المخرج من جهة نقده للمسرح المتعالي على الجمهور مع سلوك السجينين المتنطع، ورغم ما شاب خطاب الرجلين من تهور واستهتار، يشرع في استدراجهما للحديث عن ماضيهما والأسباب التي أدّت بهما إلى الانحراف حتى حوكِما وسُجنا، ثم تتعدّد الشخصيات المروي عنها، وتتناسل الحكايات، لتشكل حكاية متكاملة تنبض بالحياة، على خشبة عارية هي أرضية الزنزانة.

 

العالم ومآسيه يجتمعان في “غرفة في الهند”

وهو الأسلوب الذي توخاه ميشاليك في أعماله السابقة، فالحكايات عنده تتوالى دون أن تلتزم بخطية زمنية، بل يعتريها دائما تشابك وتضافر وارتداد، في كتابة سينمائية يخطها خيال مجنّح، فهو يجرب الكتابة الركحية ليحملنا إلى ما نحسبه حدّا فاصلا بين الحياة والمسرح والحال أنهما متنافذان، ويخلخل الجدران التي نخالها منيعة، فإذا هي بفضل الخيال سهلة الاختراق.

وفي “غرفة في الهند” تَعرض أريان منوشكين لمآسي البشر في سوريا والعراق وأفغانستان وسواها من البلدان التي تمزق أوصالها النزاعات، ومعاناة النساء والأطفال بوصفهم أبرز ضحايا الحروب، وانبهار الشباب بدعاية داعش، وكيفية تجنيدهم كي يكونوا قنابل متفجرة.

ومنوشكين، إذ تستدعي العالم كله إلى تلك الغرفة، لا تكف عن التذكير بأنها لن تقدر على الإحاطة بكل المشاكل الراهنة، والتي لا تخص العالم الثالث وحده، بل هي حاضرة حتى في العالم المتحضّر، كانتخاب ترامب رئيسا، ولا وجود لحلول لها، وغاية ما تقوم به هو التوسّل بالفن لمقاربة القضايا الراهنة.

ورغم أن أحداث المسرحية تدور في غرفة، فلها من السعة ما يجعلها فضاء يتحرّك فيه حوالي أربعين ممثلا، وتمتزج فيه الألوان بالأنغام الهندية، والصور المبثوثة عن الحياة في الهند، والمواكبة للمواضيع المطروحة.

أما “النار بالنار” الذي قدمه جيراردو مافاي في مونولوج مزدوج، فهو عمل ينقل شهادة أب ينساب خطابه على وتيرة سريعة كأن دافعا من أعماقه يحثه على تدارك الصمت الذي ربّى فيه ابنته.

وفي موازاة ذلك يندّ صوت ابنته أداما، وقد غدت مراهقة، لكي تروي ما الذي دفعها إلى حرق ردهة عمارة، هي تتكلم بلغة الضواحي الباريسية، لغة ذات بنية وقاموس ينتهكان السائد، فتتجلى المفارقة بين لغة الأب الفار من جحيم الحروب الأفريقية، ولغة البنت التي نشأت في بيئة أوروبية، كدليل على الهوة العميقة التي تفصل جيلين، وإشارة إلى أسباب صعوبة تواصل أداما مع أبيها، والصعوبة التي يلقاها هو في نقل ماضٍ أليم فقد فيه زوجته.

 

“حوار” مسرحية صاغها الصحافي الفرنسي نيكولا تريون انطلاقا من حوارات لأعلام بارزين

واختار مافاي أن يدرج هذه المسرحية ضمن ثلاثيته عن الاستهلاك، تلك التي تضع موضع مساءلة الميكانيزمات العبثية لمنظومة طفيليّة استحوذت على حياة الناس، مثلما يدرج حكاية أداما وأبيها ضمن ظرف اجتماعي اقتصادي رأسمالي يحوّل الفرد الذي يعاني الوحدة والاجتثاث من تربته إلى مستهلك مثالي ويد عاملة زهيدة الأجر، ويرى في الحريق الذي أضرمته أداما عملَ قطيعةٍ ضروريّا، بل مقاومة لمنظومة من السياسيين الفاسدين، والصحف المحكومة بعالم المال.

وتأتي مسرحية “حوار” التي صاغها نيكولا تريون، الصحافي بجريدة “لوموند” انطلاقا من حوارات لأعلام بارزين في دنيا السياسة والأدب والفن والمسرح، وحتى لأناس عاديين، ليقترح نظرات متقاطعة إلى مجريات عصرنا وتحولاته.

وقد اختار الحوار لأنه نقاش مخصوص يتوجه إلى جمهور من القراء أو المستمعين أو المشاهدين، ورغم بساطته الظاهرة، لا يدري المستجوِبُ والمستجوَبُ إلى أين سيقودهما، فهو حديث لا يقول فيه الطرفان حقّا ما يجول بخاطريهما في الغالب.

ثمة أشياء لا يجدر أن يُسأل عنها المرء، وأشياء أخرى لا يبوح بها إن سُئل، فقد يكون الجواب أحيانا مرهونا بمركز المستجوَب الاجتماعي، الذي لا يسمح له بأجوبة عفوية، لأنه قد يؤخذ بجريرة قوله، والغاية هنا إبراز حقائق ومقولات تقطع مع الابتذال والامتثالية، فالحوار، منذ ابتكار الصحافة، اتخذ أشكالا تتراوح بين التواطؤ والمجاملة، وبين المشاكسة والاتهام.

وفي المقابل، قدمت نتالي بياس في 2017 عرضا فرجويا شاملا حمل عنوان “صخب الأشجار التي تقع”، فهو ليس رقصا خالصا، رغم المهارات الجسدية التي أظهرها الممثلون، ولا مسرحا خالصا برغم أدائهم لمقاطع من مسرح مارغريت دورا، وغرتروده شتاين، وشكسبير، وقصيد للهنود الحمر، وآخر لجاك بريل باللغة الهولندية، بل هي لوحات فنية متشابكة، ذلك أن المخرجة، وهي فنانة تشكيلية ومتخصصة في فن السينوغرافيا أيضا، ركّزت على الناحيتين السمعية والبصرية، رغبة منها في إضفاء نفَس شاعري يجمع بين الموسيقى، حتى الصاخب منها كالموسيقى “التكنو”، والحزين كتلك التي رافقت مأتما جنائزيا، وبين الظواهر الطبيعية كالمطر وتكسر الأشجار وسقوطها على الأرض.

والغاية الأساسية من العرض خلقُ مناخ عام تختلط فيه الأحلام بالكوابيس، ويستخلص منه المتفرج متعة عابرة، أو دائمة إذا استطاع أن ينفذ إلى مرامي هذا العمل الغريب لتأويله وفق مرجعيته الخاصة، ذلك أن نتالي بياس داومت الاشتغال على ثيمة الجماعة، إخوة أم زمرة، والصعوبة التي تواجهها في أن تحيا حياتها وتعبر عن مشاغلها، وعلاقة أفرادها بعضهم ببعض، وعلاقة الفرد بالطبيعة، بطريقة تعتمد على التعبير الجسدي والمواقف الهزلية.

أعمال أجنبية

هي ثلاثية عنوانها “واحد، اثنان، ثلاثة” لماني سليمانلو الإيراني الأصل، الكندي الجنسية، تناول في جزئها الأول مسيرته كمهاجر هارب من نظام ملالي طهران، وعالج في جزئها الثاني العلاقة بين الأصيل والوافد، على خلفية الجدل حول الهجرة كخطر على الهوية، ثم وسّع الحقل في الجزء الثالث حينما دُعي إلى فرنسا بعد الأعمال الإرهابية التي تعرضت لها وتصاعد الجدل عن الهوية.

 

ميلو رو يقترح تراجيديا بوليفونية في “إمبراطورية”

وانتخب سليمانلو 38 متدخلا من أصول مختلفة اقترح عليهم “استجوابا عن الهوية”، واستنادا إلى إجاباتهم، صاغ المسرحية والدراماتورجيا، فكان الممثلون طوال ثلاثة أسابيع يتناوبون على التدرب عليها، مع هامش للارتجال يخصّ تساؤلاتهم حول المجتمع الذي يعيشون فيه، ووضع النساء في عيون الإسلام الراديكالي.

وفي خط متصل، وبعد أن كشف السويسري ميلو رو في مسرحيته المعنونة بـ”الحرب الأهلية” عن التحاق شبان أوروبيين بالجهاد، في جو يشهد صعود التيارات الراديكالية، و”عصور الظلام” التي تحدث فيها عن حرب البلقان وتمزّق يوغسلافيا، يعود في الجزء الثالث: “إمبراطورية”، إلى أسس الحضارات المتوسطية القديمة ليصوغ تراجيديا على النمط الإغريقي، يصوّر من خلالها بوسائل العصر أوروبا كأرض ضيافة وتبادل.

وانطلاقا من ذكريات عائلية، مأساوية في الغالب، يروي اليوناني أكيلاس كراسيزيس والرومانية مايا مورغنشتيرن والسوريان رامي مخلوف ورامو عليّ، مدعمين بالوثائق والصور وأشرطة الفيديو، مسيرة حياتهم المتقلبة والمنفى الذي اختاروه راغبين أو راهبين، والاضطهاد والقهر والتيه والضياع في المنافي. مسرح لا يتخلى عن مهمته كعامل محفّز للزمن الحاضر وهادٍ للمستقبل، فالمواضيع المطروقة تحتوي على رهانات سياسية ووجودية، وتصدعات اجتماعية، أي أنها ذاتية وكونية في الوقت نفسه.

في المقابل، تسير مسرحية الألماني بوتو شتراوس “الزمن والغرفة” في نسق محموم لا يكاد المتفرج يمسك بأطرافه، وكأنه أمام شاشة سمارتفون تتعدّد فيها المشاهد في وقت قياسي، وتلتقي الشخصيات أو تتنافر، وتتقارب أو تتصادم، وتتجاذب أو تتدافع دون سابق تخطيط مثل هباءات متموّجة داخل حقل مغناطيسي.

وقد اختار بوتو شتراوس أن يحطم أسس البنية الكلاسيكية (تصعيد، ذروة، حدث مفاجئ، انفراج، مع الحفاظ على وحدة الزمن والفعل)، ليتّبع مسارا لا يخضع لخطية متواصلة، ويفتح على عدة احتمالات كالتأويلات والأحلام والسير الذاتية مع تشكيلات تفرضها الصدفة وحدها.

وعُرفت البرازيلية كريستيان جاتاهي بأسلوب يقوم على الربط بين المسرح والسينما، بين الواقع والتخييل، ومساءلة العلاقات التي تصل الممثل بالشخصية التي يتقمصها، وبعد سترندبرغ وتشيخوف، اختارت عملاقا آخر هو السينمائي الفرنسي جان رونوار في فيلمه “قانون اللعبة”، وقامت بإلغاء الحواجز بين الأجناس الفنية لتضع الممثلين في قلب عمليات الربط، كتعميق حقل الرؤية، وتقريب الكاميرا لالتقاط الانفعالات وأثر المباغتات على وجوه الممثلين، لخلق تناسق درامي وحيوية شكلية أقرب إلى الفانتازيا، على غرار رونوار الذي صرح عام 1939 أن ممثليه كانوا يرقصون فوق بركان.

وقد حرصت المخرجة على تنزيل الأحداث في سياق التحوّلات المجتمعية الراهنة، فجاءت الحوارات ناطقة بلغة اليوم، والشخصيات حاملة لملامح اللحظة، ورغم محافظتها على الحوارات الأصلية، حاولت أن تجعل عملها أكثر التصاقا بالمرحلة الراهنة، للتحذير ممّا يتهدّد الإنسانية.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *