الإصدارات العربية والمترجمة .. نظرة نقدية

الإصدارات العربية والمترجمة .. نظرة نقدية
د. سيد علي إسماعيل
 
تمهيد
 
الهدف من هذا البحث؛ الخروج بنظرة نقدية عن الإصدارات العربية والمترجمة – المتعلقة بالمسرح – وربط هذه النظرة بما يفيد نُقاد المسرح العربي، وما يمكن أن تسهم به – هذه النظرة – في أفق المستقبل للنقد المسرحي. ومن أجل تحقيق هذا الهدف؛ يجب علينا تحديد عنوان البحث من خلال (العينة المستخدمة)؛ لأن كلمة (الإصدارات) تُوحي بأن البحث سيتعرض لجميع الإصدارات المسرحية العربية والمترجمة! وهذا شيء غير منطقي؛ لذلك سأُنحي جانباً الدراسات النقدية العربية والمترجمة؛ لأن هذه الدراسات سيتناولها بعض الزملاء في هذه الندوة! وكذلك سأتجنب الحديث عن المجلات المسرحية؛ لأنها تستحق بحثاً مستقلاً! وبذلك لم يبقَ أمامي إلا (النصوص المسرحية)!!
 
وحتى يستقيم البحث في منهجه ونتائجه – بما يحقق أهدافه – قسمت البحث إلى
قسمين: الأول (النصوص المُترجمة) بوصفها الأسبق تاريخياً، والآخر (النصوص المُؤلفة)! وبكل قسم ثلاث مراحل: الأولى (مرحلة البدايات)، وفيها سأتناول النصوص المسرحية منذ بداية ظهورها في العالم العربي، وحتى عام 1907م. وهو العام الذي يسبق ظهور المرحلة الثانية (مرحلة النضوج)، وفيها سأتناول النصوص المسرحية، التي تطورت بشكل ملحوظ بعد مرحلة البدايات، وسأتوقف عند عام 1957 بالنسبة للنصوص المترجمة، وعند 1964 بالنسبة للنصوص المؤلفة؛ حيث ينتقل البحث إلى مرحلته الأخيرة (مرحلة المنهج المدروس)، وهي مرحلة صدور السلاسل المسرحية المتخصصة؛ سواء المترجمة أو المؤلفة. وسأختتم البحث بنظرة نقدية عامة، أتوقع – من خلال نقاطها – تحقيق هدف البحث.
 
وحتى تكتمل خُطة البحث، يجب وضع معايير محددة للنصوص المسرحية المُستخدمة كعينة لهذه الدراسة؛ بحيث تسمح – هذه العينة – بتكوين نظرة نقدية، تُسهم في أفق المستقبل للنقد المسرحي، وتدعم بنتائجها الرؤية المستقبلية لنُقاد المسرح العربي. وهذه المعاير هي:
 
أولاً: بالنسبة للنصوص المستخدمة في مرحلتي (البدايات والنضوج): يجب أن تكون منشورة في كُتبٍ مستقلة، وليست منشورة داخل مجلات أو صحف. وأن تكون منشورة قبل عام 1957 للنصوص المترجمة، وقبل عام 1964 للنصوص المؤلفة، وأن تشتمل على مادة نقدية منشورة، مثل: المقدمة، أو الدراسة، أو التذييل، أو البيانات، أو التقاريظ .. إلخ، حيث لاحظت أن القارئ نادراً ما يهتم بقراءة هذه المواد النقدية المهمة، علماً بأن هذه المواد – غالباً – ما يكتبها (المؤلف/الناقد) بعد الانتهاء من العمل الإبداعي، أي أنها تحمل مفاتيح العمل الرئيسية، وتفتح أفاق النقد أمام الناقد، وتسهم في إثراء العمل الإبداعي قبل قراءته بالنسبة للدارس، بل – وفي بعض الأحيان – تحمل حقائق مجهولة، من الممكن أن تغيّر كثيراً من ثوابتٍ كان يُعتقد في صحتها!!
 
ثانياً : بالنسبة للنصوص المستخدمة في مرحلة (المنهج المدروس): يجب أن تكون منشورة ضمن سلاسل متخصصة في نشر النصوص المسرحية المترجمة منذ عام 1957، أو المؤلفة منذ عام 1964، ويُفضل أن تكون للسلسلة سياسة واضحة؛ لذلك لن تدخل سلسلة (المسرح العربي) – التي أصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1986 – ضمن العينة المستخدمة؛ لعدم وجود سياسة واضحة لها في النشر. كما يُشترط ألا تجمع السلسلة بين النصوص المُترجمة والمُؤلفة! وبناءً على ذلك، لا تدخل في هذه العينة سلسلة (مسرحيات مختارة) التي ظهرت في مصر عام 1973؛ لأنها جمعت بين المُترجم والمؤلف! وكذلك النصوص المسرحية، التي نشرتها مجلة (الحياة المسرحية) السورية – في كتب مستقلة منذ عام 1991 – للسبب نفسه! كما لا تدخل في العينة إصدارات مشروع الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية لترجمة ونشر مسرحيات شكسبير وراسين – التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي – لأنها إصدارات مشروع لا سلسلة!! وأخيراً لا تدخل في عينة البحث جميع النصوص المسرحية المنشورة في السلاسل غير المتخصصة، مثل: روايات الهلال، وكتاب الهلال، والكتاب الماسي، والكتاب الذهبي، والألف كتاب، والإبداع العربي، وإشراقات أدبية، وأصوات أدبية، ومختارات فصول، وكتب للجميع، والكتاب للجميع .. إلخ؛ لأن هذه السلاسل كانت تنشر الكتابات النقدية أو الإبداعية (رواية، قصة، شعر، مسرحية، دراسة)، ولم تتخصص في نشر النصوص المسرحية فقط.
 
القسم الأول : النصوص المترجمة
 
مرحلة البدايات
 
إذا كانت لبنان تحمل لواء ريادة المسرح العربي في صورة مارون النقاش – الرائد الأول – بعرضه لمسرحية (البخيل) عام 1848م؛ فإنها أيضاً تحمل ريادة إصدار أول كتاب عن المسرح باللغة العربية في العالم العربي عام 1869م، وهو كتاب (أرزة لبنان)، الذي يشتمل على نصوص مسرحيات مارون النقاش المترجمة أو المعربة، بالإضافة إلى أشعاره وخطبه ومقدماته النقدية، التي جمعها شقيقه نقولا النقاش. ومقدمة هذا الكتاب تثبت أن مارون النقاش أول من شجع على النقد المسرحي، وأسهم في ظهوره، وكان المُشجع الأول لمن تلاه من كُتّاب المسرح! وكفى بنا للتدليل على ذلك؛ ما جاء في المقدمة النقدية للكتاب – وهي  الخطبة التي ذكرها مارون قبل تمثيل مسرحيته الأولى (البخيل) عام 1848 – عندما قال:
 
” صوّبت أخيراً قصدي إلى تقليد المرسح الموسيقي المجدي. فإن استصوب ساداتي فعلي، وساعدوني بحكمتهم على جهلي. ومدحوا ما يتقدم لديهم، وينجلي عليهم. فأنسبُ ذلك لحُسن أخلاقهم، وأعدّه من لطفهم ومزاقهم. وإلا فلا أنسبُ الذنب إلا لشقواتي، وجزاءً وتأديباً لغباوتي. لأني أكون اقتحمت ميداناً لست من رجاله، وركبت فرساً لست من أبطاله. ولكني مع ذلك أرجوهم لكي ينبهوني عما فرط، ويرشدوني بمعزلٍ إلى إصلاح الغلط ….. لو رأيتم أعمالي غير كاملة، وأفعالي غير عاملة، فلا يقعدنكم الازدرا والملل، ولا يمنعكم الضجر والزعل، بل كلُّ من كان منكم لبيباً وغيور. وعنده إلمام بهذه الأمور، يتشجع ويزيد على تأليفي هذا المهان، تأليفاً آخر ذا شان ” ([i]).
 
أما في مصر؛ فكان أول نص مسرحي مطبوع باللغة العربية في مطبعة إبراهيم المويلحي – ويحمل مقدمة نقدية – كان نصاً إيطالياً ترجمه محمد عثمان جلال ([ii]) عام 1870م، تحت عنوان (ترجمة ألعاب أول ليلة من ألعاب تياترو الأوبيره)، وفي المقدمة قام المترجم بالحديث عن سبب اختياره ترجمة هذه المسرحية؛ وكأنه يضع القواعد العامة للأسلوب الأمثل لاختيار المسرحيات وترجمتها إلى العربية؛ حيث لاحظ أن المسرح في أوروبا كان سبب تمدنها، والتمدن لا يأتي إلا بمعرفة التاريخ، وسير الأمم السابقة! ومن خلال ذلك تحدث عن قيمة المسرحيات التاريخية، وأثرها في تمدن البلاد الشرقية، وإسهاماً منه في هذا الهدف ترجم المسرحية وطبعها لتكون متاحة بين الناس ([iii]).
 
والملاحظ أن محمد عثمان جلال – في هذه المقدمة – ذكر إنه ترجم المسرحية ترجمة حرفية؛ قائلاً: ” عزمنا على نقلها بلغتنا حرفاً بحرف ” ([iv])، وفي العام التالي، انتقل محمد عثمان جلال من مرحلة الترجمة الحرفية إلى مرحلة التعريب؛ عندما بدأ في نشر كتابه (النكات وباب التياترات) عام 1871 ([v])، وفي مقدمته تحدث عن تعريبه للمسرحيات الكوميدية (فقط)؛ لأنه لاحظ فوائد الكوميديا في حياة الإنسان، وأثر الترويح عن النفس في تمدن الأمم .. إلخ. وأهم ما جاء في المقدمة؛ محاولة المُترجم تعريف التعريب، أو وضع شرح له بوصفه نوعاً كتابياً غير معروف، يختلف عن أسلوب الترجمة المعمول به! فقال عن النصوص المسرحية الأوروبية الكوميدية: ” إن كتبها من أدق المؤلفات نثراً ونظماً، وأصعبها قراءة وفهماً، فناهيك بترجمتها وإخراجها عن أصلها، ونقلها إلى عوائد غير أهلها ” ([vi]).
 
ومن المكتشفات المسرحية الحديثة، أن سليم خليل النقاش اللبناني، هو رائد المسرح العربي في مصر – وليس يعقوب صنوع كما يظن أغلب الدارسين ([vii]) – حيث قام سليم بإدخال العروض المسرحية باللغة العربية – بصورة مستمرة – لأول مرة إلى مصر عام 1876م، وكان من المفترض أن تكون هذه الريادة في عام 1875م، لولا تفشي وباء الكوليرا في لبنان، فتأخرت فرقته عاماً كاملاً قبل أن تبدأ عملها الريادي في مصر. وقد استعد سليم النقاش لهذا العمل بنشره مسرحية (عائدة) في لبنان عام 1875؛ تمهيداً لعرضها في مصر.
 
ومن حُسن الطالع أن المسرحية تشتمل على مقدمة نقدية، أشار فيها سليم النقاش إلى فكرة (الاقتباس) دون أن يذكر المصطلح – لعدم ظهوره أو انتشاره في هذه الفترة – فهو يعترف بأن المسرحية غير مؤلفة، أو معربة، أو مصنفة، ولا يعرف ماذا يطلق عليها ([viii])! والدليل على أن سليم النقاش مكتشف أسلوب الاقتباس المسرحي في العالم العربي، وواضع شرحه وتحديده دون اختراع مصطلحه، اعترافه في المقدمة أنه حصل على نص (عائدة) باللغة الإيطالية، فوجده نصاً تلحينياً يهتم بالألحان والنغمات، أكثر منه نصاً مسرحياً يهتم بالموضوع وحبكته الدرامية. ومن الجائز أن سليم النقاش – في هذا الوقت المبكر – لم يكن على علم تام بالفرق بين نصوص الأوبرا وعروضها الموجودة في مصر، وبين نصوص المسرح وعروضه الموجودة في لبنان، لذلك قام باقتباس موضوع أوبرا (عائدة)، وأعاد صياغته في صورة مسرحية تناسب ذوق الجمهور العربي؛ وكأنه يقوم بالتجريب في الكتابة المسرحية! ولأنه لا يعلم نتيجة عمله هذا؛ فقد وجه أنظار القُراء إلى الرفق به في نقدهم؛ عندما يقرأون المسرحية، ولعلها دعوة مبكرة من سليم النقاش لتنشيط النقد المسرحي ([ix])!
 
عاد محمد عثمان جلال إلى الترجمة مرة أخرى عام 1894م، فترجم ثلاث مسرحيات لراسين، ونشرهم في كتابه (الروايات المفيدة في علم التراجيدة)، وفي المقدمة ناقش قضية الفصحى والعامية في الكتابة المسرحية ([x])، قائلاً عن راسين: ” اخترت من كتابه ثلاث روايات، وسميتها بالروايات المفيدة في التراجيدة …… واتبعت أصلها المنظوم، وجعلت نظمها يفهمه العموم، فإن اللغة الدارجة أنسب لهذا المقام، وأوقع في النفس عند الخواص والعوام” ([xi]). وهذا القول – ربما – يضع محمد عثمان جلال ضمن الأوائل ممن ناقشوا قضية الفصحى والعامية في الكتابة المسرحية، لا سيما إقراره بأن اللغة الدراجة هي الأنسب للكوميديا والتراجيديا معاً، وهذا الفعل من قبله يُعدّ – بمفهومنا الحديث – تجريباً في الكتابة المسرحية، حيث إن الكتابة العربية للمسرحيات التراجيدية المطبوعة في هذا الوقت، كانت تتميز بفصاحتها، ومفرداتها المُعجمية، واستخدامها المُفرط في الصنعة اللفظية.
 
وبمرور الوقت، تقدم التعريب خطوة إلى الأمام عام 1898م، عندما نشر حسين سكوتي مسرحيته المُعرّبة من التركية (الوطن أو سلسترة) تأليف كمال نامق بك، حيث تحدث المُعرّب عن أسلوبه الجديد في التعريب – بأنه لم يكتفِ بتعريب الأسماء والأماكن والمواقف كما هو معروف، بل عرّب كذلك ما يدور في خيال المؤلف الأصلي من أفكار ومعانٍ ومضامين – قائلاً : ” قد راعيت في تعريب العبارات كلّ ما عناه المؤلف من الخيالات ” ([xii]).
 
ومع بداية القرن العشرين، كثرت المطابع الأهلية، وأصبحت النصوص المسرحية ساحة للكُتّاب المسرحيين وغير المسرحيين، وانتشرت فكرة طباعة النصوص المسرحية على نفقة مؤلفيها، ونتج عن هذا التوسع اختلاط الأفكار والمصطلحات، فما هو معروف بالترجمة أصبح تعريباً، وما هو معروف بالتعريب أصبح تأليفاً … إلخ. وخير مثال على ذلك قيام ناشد عبد الملك قلدس بطباعة مسرحية (كشف القناع عن غرائب الخداع) سنة 1900 ([xiii])، وكتب على غلافها (تأليف)، وهي في الأصل (ترجمة)، كما كتب على غلافها أيضاَ بأنها (غرامية أدبية تاريخية مصرية)، والحقيقة أنها تاريخية أوروبية، ولا علاقة لها بمصر أو بتاريخها؛ حيث إن جميع شخصياتها أجنبية، مثل: ليدفك، أدمون، روبرت، جولين، فرانسوا، شارل، الفونس .. إلخ؛ ولكن الجديد الذي أضافه المؤلف في مسرحيته، نشره – في نهاية المسرحية – آراء بعض الأصدقاء ممن قرأوا المسرحية، وهي أقوال مادحة في مُجملها، تميل إلى المجاملة ([xiv])؛ ورغم ذلك تُعد من بواكير النقد المسرحي، لما فيها من آراء أدبية وفنية، مثل قول مليكة سليمان زميل المؤلف في العمل: ” أسعدني الحظ بالاطلاع على هذه الرواية؛ فوجدتها سهلة العبارة، لطيفة الموضوع، تدل على ذوق كاتبها، وناسج بردها”، كما قال نسيم واصف زميل المؤلف في العمل أيضاً: ” اطلعت على رواية كشف القناع عن غرائب الخداع؛ فرأيتها وإن كانت منمقة على أسلوب الروايات بشيء من الغرام، ولكنها في الحقيقة تشخص الفضائل والوفاء والعفاف والمروءة وشرف النفس أحسن تشخيص” ([xv]).
 
وفي عام 1904 نشر فؤاد سليم – أحد المسرحيين المشهورين في مصر في تلك الفترة – تعريباً لمسرحية فيكتور هوجو (الانتقام الرهيب) أو (لوكراس بورجيا) ([xvi]). ومقدمة هذه المسرحية تُعدّ فتحاً في مجال النقد المسرحي العربي؛ حيث تناول المُعرّب شرح المقولة المعروفة بأن (المسرح أبو الفنون) دون ذكرها بنصها، قائلاً: ” إن فن التمثيل جمع أرقى الفنون الجميلة ….. من ذلك فن الأدب، الذي يتجلى بأبهى مظاهره في حُلل المحسنات البديعية القشيبة، وفن التصوير الذي يدهشنا بكمال اتقانه، وحسن رونقه. وفن الغناء الشجي، الذي نسمعه من الممثل في تمثيل حالتي الحزن والفرح ” .. إلخ ([xvii]). وفي موضع آخر من المقدمة نجد المُعرّب يدافع عن التمثيل المسرحي، وينفي عنه ما يقال بأنه ” مُفسد للأخلاق القويمة، مُميت للعواطف الشريفة، مُجرّد الشُبان من السجايا الكريمة، والمبادئ السليمة. وغير ذلك من سخيف الآراء وواهن البراهين” ([xviii]). كما كان للمعرب موقف ديني أخلاقي أثناء تعريبه المسرحية؛ حيث حذف كل طعن وجهه المؤلف للآلهة ([xix]). والطريف في هذه المقدمة، اعتراف المُعرّب بأنه لم يكتفِ بتعريب نص فيكتور هوجو؛ بل أضاف إليه فصلين من تأليفه؛ إرضاءً لذوق الفرق المسرحية!! قائلاً في ذلك: ” وموافقة لأذواق الأجواق المصرية، أضفت إلى الرواية فصلين ألفتهما، وألحقت بالموضوع الأصلي بعض زيادات لا تشوه محاسنه، ولا تعتبر فيه حشواً” ([xx]). وهكذا بدأ التداخل بين التأليف والتعريب، والخلط بين الجهود المسرحية في مجال الكتابة، تمهيداً لظهور التأليف المسرحي فيما بعد.
 
بعد عام واحد قام جورج طنوس بشيء من التطوير، عندما عرّب مسرحية فولتير (الشعب والقيصر) عام 1905 ([xxi])، وكتب لها مقدمةً وتذييلاً، تحدث فيهما عن التعريب، ولغة الكتابة المسرحية، والنقد المسرحي! ففي المقدمة حدثنا عن سبب تعريبه لهذه المسرحية؛ لأنه وجد تشابهاً بين أحداثها الماضية، وبين ما يحدث في البلاد الروسية من طلب للحرية والدستور عام 1905! أي أنه وضع قاعدة جديدة للتعريب، تتمثل في نقل المسرحيات التاريخية – أو السياسية – التي تخدم الأوضاع السياسية في بعض البلدان، والتصرف في أحداثها وشخصياتها، بما يتناسب وذوق الجمهور العربي المُشاهد. ومن أجل ذلك وضع المُعرّب شخصية نسائية (فتاة) – لم تكن موجودة في النص الأصلي – لأنه يعلم أن الجمهور المصري لا يعترف بمسرحية إلا إذا كانت غرامية، وكان من بين ممثليها فتاة!! كما تحدث أيضاً عن لغة المسرحية، حيث جعلها سلسلة في عربيتها؛ ليسهل فهمها على الجمهور، وتأتي بالتأثير المطلوب. وأخيراً ناشد المُعرّب نُقاد المسرح في الصحف السيارة انتقاد المسرحية حتى يستفيد من نقدهم في كتاباته المسرحية القادمة ([xxii]). أما التذييل فقد خصصه للحديث عن عمله في تشكيل آخر كلمات النص؛ إسهاماً منه في مساعدة الممثلين – أو القُرّاء – على النطق السليم ([xxiii]).
 
ومما سبق يتضح لنا أن مرحلة بدايات الترجمة والتعريب، التي انتعشت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أصبحت تتراجع – مع بداية القرن العشرين – أمام محاولات التأليف المسرحي، التي ظهرت بوضوح عام 1907، عندما نشر فايز سمعان الأشقر مسرحيته (الأميرة فينيس) أو (نصيحة الإخوان في مشاهد الزمان) ([xxiv])، وكتب على غلافها أنها من تأليفه! وفي المقدمة اعترف أنها مُترجمة في الأصل؛ ولكنه حوّر في أحداثها، وأعاد صياغتها، فأصبحت مؤلفة من وجهة نظره!! والسبب في ذلك أن أحد الأدباء استولى على مسودة المخطوطة المُترجمة ([xxv])، ومثلها على المسرح، وشرع في طباعتها! وما يهمنا من أمر هذه القصة، ظهور أسلوب التأليف المُعتمِد على الترجمة أو التعريب، الذي تطور إلى الإبداع في التأليف المسرحي فيما بعد، والذي سنتحدث عنه في القسم الثاني.
 
مرحلة النضوج
 
من الجدير بالذكر، إن تراجع الترجمة والتعريب أمام التأليف، كان تراجعاً في الكم فقط، وليس في الكيف ([xxvi])!! فهذا التراجع الكمي، أضاف جودة نقدية وأدبية كبيرتين في قيمة المسرحيات المنشورة! فعلى سبيل المثال مسرحية (شهداء الوطنية) لفكتوريان ساردو، عرّبها زاكي مابرو، ونشرها عام 1909م ([xxvii])؛ ولأن المسرحية تتحدث عن الصراع حول حُكم بلاد الفلمنك (هولندا وبلجيكا)، قام المُعرّب – بصورة غير مسبوقة – بكتابة مقدمة تاريخية عن هذه البلاد، وعن تاريخ حُكامها، كما تناول مغزى المسرحية أدبياً واجتماعياً ([xxviii]).
 
كذلك قام خليل مطران بمناقشة قضية لغة الكتابة المسرحية في مقدمة تعريبه لمسرحية (عُطيلُ) لشكسبير المنشورة عام 1912، وقرر أن يخوض تجربة جديدة في الكتابة المسرحية، وهي اختيار أسلوب الوسط، بعد أن أبان عن حيرته أمام العامية والفصحى، قائلاً : ” لم يبقَ إلا الأسلوب الوسط، وهو الذي تكون بمقتضاه الألفاظ كلها فصيحة لكن سهلة ….. هذا هو الأسلوب الذي آثرتهُ، وأرجو أن أكون قد وفقت فيه ….. فيصحُّ أن تكون هذه التجربة مثالاً للتعريب “.
 
ومن تطور أسلوب نشر المسرحيات المترجمة ذات المقدمات، مسرحية (الإيمان) لأوجين بريو، التي عرّبها صالح جودت، ونشرها عام 1914 ([xxix])، حيث قام المُعرّب في مقدمته بكتابة تعريف للمؤلف اقترب فيه من سيرته الذاتية الفنية، وكتب كذلك مُلخصاً للمسرحية، وبعض مضامينها الفكرية ([xxx])، وهذا الأسلوب سيصبح فيما بعد منهجاً لإحدى سلاسل نشر المسرحيات المترجمة، كما سيأتي ذكره!
 
وبمرور الوقت زاد الاهتمام بالمسرحيات المترجمة والمُعرّبة؛ وأصبحت لها مقدمات كبيرة، تُبين عن مضمونها، وتناقش بعض قضاياها، وتوضح عمل صاحبها، وتُفرق بين المؤلف والمُترجم والمُعرب والمُقتبس، وتُعلي عمل أحدهما على الآخر … إلخ مظاهر النضوج الواضحة في إصدارات النصوص المسرحية المترجمة، وأبرز نموذج لذلك المقدمة، التي كتبها عبد الوارث عسر تحت عنوان (التأليف والاقتباس)؛ لمسرحية سليمان نجيب (في بيوت الناس) المنشورة عام 1944 ([xxxi])؛ ففي هذه المقدمة، حاول المُقّدم إقناع القارئ بأن التأليف لا يختلف عن الاقتباس في القيمة أو الجهد ([xxxii])، وبعد هذا التمهيد، بدأ يُقارب بين عمل المؤلف الفرنسي (ساشا جيتري) في مسرحيته (لا جالوسي)، وبين عمل المُقتبس سليمان نجيب في مسرحيته (في بيوت الناس)!
 
الطريف في الأمر أن المُقدّم بذل جهداً كبيراً في إثبات وجهة نظره، فجاءت مقدمته أشبه بالدراسة منها إلى المقدمة في المقارنة بين مصطلحي التأليف والاقتباس. والواقع أن عبد الوارث عسر لم يكن على دراية بأنه يتحدث عن (التمصير) لا عن (الاقتباس)، حيث إن الاقتباس أصبح مصطلحاً معروفاً، أما التمصير فلم يكن معروفاً في ذلك الوقت، بل كان معناه متغلغلاً في مصطلحي التعريب والاقتباس. ومن العبارات الدالة على ذلك قول المُقّدم: “فسليمان نجيب يحمل نفسه على اختيار الموضوع الذي يمت بأقوى الأسباب إلى البيئة المصرية والجو المصري والمزاج المصري، ثم يعمد بعد ذلك إلى عملية شاقة معقدة تحتوي على أهم عناصر التأليف ….. ولكن الحافز الأول الذي أهاب بسليمان أن يقتبس هذه الرواية كان أعمق من هذا كله، كان يتعلق مباشرة بمصريتنا وبيئتنا ومزاجنا، كان يتعلق (بالغيرة) الممتزجة بدمائنا الشرقية ….. هذا الخلق يخصنا نحن المصريين ونحن الشرقيين أكثر مما يخصّ سوانا من الأمم، وسليمان نجيب أجدر بمعالجته من ساشا جيتري. غير أن سليمان نظر إلى الموضوع من ناجية تختلف اختلافاً تاماً عن ناحية زميله الفرنسي؛ نظر إليه بعينه المصرية الغيورة ” ([xxxiii]).
 
مرحلة المنهج المدروس
 
(أ) – سلسلة (من أدب المسرح)
 
مما سبق يتضح لنا أن النصوص المسرحية المُترجمة، تطورت بصورة ملحوظة، وأصبح لها مقدمات منشورة، تُبين عن قيمتها، وتبرز جهد العاملين في نقلها من اللغات المختلفة. وعلى الرغم من هذا، ظلت الترجمات المسرحية المنشورة محدودة؛ بحدود المترجمين وجهودهم الذاتية الفردية، دون وجود منهج مدروس! فظهرت السلاسل المتخصصة، وبدأتها مكتبة (الأنجلو المصرية)، فنشرت سلسلة (من أدب المسرح) ([xxxiv])؛ كأول سلسلة متخصصة في إصدار المسرحيات المُترجمة من عام 1957، إلى عام 1967. وعلى الرغم من كونها أول سلسلة متخصصة، إلا إننا نستطيع تحديد منهجها من خلال ملاحظاتنا النقدية الآتية:
 
1 – تخصصت السلسلة في نشر ترجمات المسرحيات الأمريكية فقط؛ وذلك وفقاً لسياسة دار النشر! ومن إيجابيات هذا الأمر معرفة العالم العربي – لأول مرة – بأول نصوص مسرحية مترجمة بأقلام الأمريكيين، أمثال: يوجين أونيل، ووليم سارويان، وسدني هوارد، وثورنتون وايلدر، وجورج كوفمان، وفيليب باري.
 
2 – اهتمت السلسلة بنشر النصوص، ولم تهتم – في مقدماتها – بالمؤلفين، أو بالمسرح الأمريكي (تاريخ ، فن، مضمون، فكر، توجه)!! وكأن دار النشر أرادت نشر النصوص من أجل دراستها من قبل الطلاب! والدليل على ذلك، قول توفيق الحكيم في مقدمة العدد الأول من السلسلة: ” عندما طُلب إليَّ تقديم هذه الألوان من المسرح الأمريكي ترددت، لأن إحاطتي بأدب الأمريكان على وجه العموم لا تكفيني ولا ترضيني. فقيل لي: حسبك أن تقرأ هذه المسرحيات الأربع وتُبدي فيها رأيك ” ([xxxv]).
 
3 – أغلب المقدمات النقدية المنشورة في الأعداد الأولى – لهذه السلسلة – لم تكن على المستوى النقدي المطلوب؛ رغم قيمة أصحابها كنُقاد أو مشاهير!! فتوفيق الحكيم بدلاً من أن يتحدث عن يوجين أونيل ومسرحيته (وراء الأفق)، تحدث عن لغة الكتابة المسرحية العربية بين الفصحى والعامية، وبرّر عدم معرفة العرب بالمسرح، وتحدث عن تقدم أمريكا!! وحسن محمود، بدلاً من أن يتحدث عن مسرحية (بلدتنا) لثورنتون وايلدر، وجدناه يعلق على مقدمة الحكيم السابقة، ويختتم مقدمته بملخص المسرحية ([xxxvi])!! أمّا الدكتور عبد القادر القط، فوجدناه اكتفى بذكر ملخص وفكرة مسرحية (أيام حياتك) لوليم سارويان ([xxxvii]). وجورج أبيض وجدناه يتحدث عن ذكرياته المسرحية في القرن التاسع عشر، وعن المسرح الفرنسي، مختتماً مقدمة مسرحية (في قبضة الثلوج) لأوين ديفز بملخص لها ([xxxviii]).
 
4 – ظهر التطور في المقدمات النقدية ابتداءً من عام 1959 – بسبب ظهور سلسلتين منافستين في نشر المسرحيات المترجمة، سنتحدث عنهما لاحقاً – فوجدنا حسن جلال العروسي، يقدم مسرحية (أنَّا كريستي) ليوجين أونيل بكتابة تعريف وافٍ للمؤلف، مع ذكر أفكاره واتجاهاته المسرحية، وربط هذه الأمور بالمسرح الأمريكي بصفة عامة ([xxxix]). أما سامي الكيالي فقد كتب مقدمة لمسرحية (الوارثة)، نادى فيها بالتفكير الناقد، قائلاً : ” ليس المطلوب من القارئ أن يخضع لما يذهب إليه المؤلف، بل المهم حين نقرأ كتاباً ما، قصة أو شعر أو دراسة، أن يثير فينا نزعة التفكير والمناقشة ” ([xl]). أما زكي طليمات فقد كتب مقدمة مسرحية (إلى البيت يا ملاكي) لكيتي فرينجز 
 بحث قُدم في الندوة الدولية الثالثة ضمن مشروع الاستراتيجية العربية للتنمية المسرحية، تحت عنوان (نقد المسرح العربي – رؤية مستقبلية)، التي أقامتها الهيئة العربية للمسرح بالشارقة – دولة الإمارات العربية المتحدة – في يومي 15 و16/10/2011 ….. والبحث نشر في كتاب مشروع الاستراتيجية العربية للتنمية المسرحية (الندوة الثالثة) نقد المسرح العربي: البوصلة والمرساة – الهيئة العربية للمسرح – المجلس الوطني للإعلام – أبو ظبي – الإمارات العربية المتحدة – 2012 – ص(193 – 248).
—————————————————
المصدر : مجلة الفنون المسرحية

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *