الأحلام هي الحياة الحقيقية التي لا مجال فيها للكذب والنفاق

 

الأحلام هي الحياة الحقيقية التي لا مجال فيها للكذب والنفاق

 

 

تنفتح عروض مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة “دي- كاف”، في نسخته الثامنة بالقاهرة الممتدة حتى الحادي والعشرين من أبريل الجاري، على الكثير من الأفكار الجريئة والأعمال التجريبية في المسرح والسينما والأوبرا والغناء والموسيقى والعرائس وغيرها، بمشاركة دول عدة عربية وأجنبية، لامست مناطق فنية مختلفة.

في العرض الفرنسي المصري “تصبح على خير”، تحوّل المسرح إلى ورشة لتفريغ المعلومات، وتسجيل ما يحدث في أثناء النوم، وتوثيق الأحلام التي جاءت تعبيرا عن رغبات مكبوتة وآمال معطلة.

وجاء العرض الفرنسي المصري على مسرح “روابط” ليعيد صياغة الأحلام الإنسانية وتشكيلها كظاهرة مركزية مهمة ومؤثرة.

الخشبة المختبر

انطلاقا من سؤال محوري هو: هل حلمتَ الليلة الماضية؟ اتجه عرض “تصبح على خير” مباشرة نحو إيقاظ الوجع بقسوة، وقراءة المسكوت عنه من أحلام البشر المجسِّدة لما لا يبلغونه في الحقيقة، أو ما يكابدون أوجاعه في الواقع الكابوسي.

استغرق العرض خمسا وسبعين دقيقة، من تأليف لانسيلوت هيملن وإخراج دانكان إيفننو ودراماتورج أدهم حافظ وإنتاج مشروع لايت هاوس (باريس) بالتعاون مع منصة حركة للفنون الأدائية (القاهرة)، ولعب بطولته أربعة من الممثلين المصريين أدوا أدوارهم باللهجة العامية مع ترجمة إلى الإنكليزية، وهم: ناجي شحاتة، علي صبحي، منى جميل ولمياء جودة.

و“لايت هاوس” هي مؤسسة فرنسية تهدف إلى تقديم العروض الفنية المعاصرة المعتمدة على طرح الأبحاث العلمية في شكل مسرحي، ومناقشة القضايا من خلال دمج الفنون المختلفة من تمثيل ورقص وتصميم، ومزجها بالعلوم الإنسانية والأبحاث العلمية. أما منصة حركة للرقص المعاصر، فتعنى بالأعمال الحركية وصيغ العروض الأدائية المتنوعة.

في مسرح يكاد يخلو من السينوغرافيا ليتحول إلى مختبر بحثي أو ورشة لتسجيل المكالمات الهاتفية وتفريغ المعلومات وتدوين الملاحظات، مضى عرض “تصبح على خير” بأسلوب تقريري نحو رسم مسار لنتائج استقصاء “حول الأحلام”، أجراه فريق مشروع لايت هاوس على سكان مدينتي نانتير والقاهرة خلال عامي 2017 و2018 على التوالي.

هل يختلف الحلم من ثقافة إلى أخرى؟ ما أبرز الأحلام المشتركة التي تجمع البشر، خصوصا الذين يمرون بالظروف المعيشية ذاتها؟ ما العلاقة بين أحلام النوم وأحلام اليقظة، وبين ما يراه النائم وما يعاينه في الحقيقة؟ تساؤلات عديدة طرحتها المسرحية، التي خلطت في تركيبتها الغرائبية بين الواقع (كما هو) والفن (التخييلي) على نحو مثير.

كاد العرض يكتفي بتقصي الحالة الأدائية للبشر أثناء النوم، فجاءت الحركة على المسرح قليلة، مقتصرة على ما يقتضيه تقمص الممثلين لشخصيات هؤلاء البشر من أعمار مختلفة، الذين يجري التواصل معهم هاتفيّا من خلال مسؤولي المركز البحثي، ومناقشتهم في أحلامهم، وتسجيلها، وتحليلها.

غلبت الذهنية على العرض، واللغة المنطوقة خصوصا الحكائية من خلال حوارات سرد الأحلام، وجاء ذلك على حساب التعبير الأدائي والحركي، وافتقر العرض إلى الكثير من أبجديات المسرح المعاصر القائم على الصورة وسحر الرؤية وجماليات الإبهار البصري والتعبير الجسدي المجرد وتقنيات ملء الفراغ.

باستثناء الإضاءة، التي جاءت موفقة باستخدام الخيالات والظلال والإظلام في المشاهد “الاعترافية”، لم تظهر في المسرحية عناصر ومفردات فنية تكسر عملية النقل الخطّي للواقع، الأمر الذي أوحى بأن اللعبة المسرحية هي بالفعل معمل تشريحي سوسيولوجي أو عيادة علاجية سيكولوجية.

رهان التعري

هل يختلف الحلم من ثقافة إلى أخرى (تصوير: محمد حسنين)

آثر عرض “تصبح على خير” أن يكون رهانه الأوحد منعقدا على تلك الأحلام التي يفضح سيرتها الخفية بجسارة، فهو عرض الانكشاف والتعري الكامل، لذلك جاءت بعض أحلام أفراد “العيّنة” المختارة واصفة لحالتهم عندما يصيرون عراة، ويتعاملون معا بتلقائية دون تخطيط مسبق، ويعبرون عن مشاعرهم وانفعالاتهم وأيضا اشتهاءاتهم دون تحفظ، وإن بلغ الأمر ببعضهم إلى تمني الشذوذ، تمردا على القوانين السائدة.

أعلى العرض من شأن هذه الأحلام الواصفة لحالات البشر الأكثر صدقا، فهذه الأحلام هي الترجمة الفعلية لكل الرغبات المكبوتة والآمال المقهورة، وهي الواقع البديل الذي قد يعوّض نسبيّا غياب الواقع الحقيقي، وهكذا تعد الأحلام وفق الباحثين والمختصين من الظواهر المركزية المهمة في الثقافات، وهي الوسيلة العلمية والبحثية الملائمة للتحليل النفسي وفهم خارطة المجتمعات من خلال خبراتهم الفردية، المتباينة والمشتركة في آن.

بواسطة شبكة الأحلام المنسوجة باعترافات الرجال والنساء، تمكن العرض من اصطياد صورة بانورامية للحياة المأساوية بصفة عامة، وما يجري على الأرض من صراعات وإخفاقات وإحباطات، وما حلّ بأبواب السماء ودروبها من انغلاق مفاجئ وانسداد تام أمام الباحثين عن مخرج واللاهثين وراء مهرب سرابي.

طافت كؤوس الأحلام على ممثلين من جميع فئات المجتمع، بين كبار وصغار، موظفين وفلاحين وعمّال، متعلمين وأميين، وجاءت الأحلام أحيانا تقريرية دالة على أحداث ومواقف عادية، وأحيانا رمزية محتوية على إشارات، كالحلم بفئران الخراب على سبيل المثال، والأشباح المخيفة، وأرجوحة المتاهة التي لا تتوقف عن الدوران.

وصل العرض إلى أن الأحلام هي تلك الحياة الحقيقية التي لا مجال فيها للرياء والنفاق، وأن الإنسان بمعايشته للحلم وحكيّه إنما يعتصر جزءا من خلاياه وروحه، وتلك هي اللحظات الحميمية الدافئة، التي صارت مستحيلة في واقع فاسد أو لا وجود له.

ينتصر عرض “تصبح على خير” للاوعي والتحرر، على اعتبار أن الحالة المعرفية قد جمّدت الحركة والأحاسيس، وجعلت محطات الحياة سلسلة من القيود والمعارك، وقد وفقت المسرحية في طرح أفكارها ونتائج بحثها الميداني، لكن شروط الفن توارت خلف غيوم الأدخنة المعملية الكثيرة.

الحياة سلسلة من القيود والمعارك (تصوير: محمد حسنين)

 

 

https://alarab.co.uk/

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …