افتتاحية أكاديمية الشارقة للفنون الأدائية.. (كتاب الله) حرير النور القاسمي في ( أنسوجة ) العامري الإبداعية -يوسف الحمدان#الإمارات

افتتاحية أكاديمية الشارقة للفنون الأدائية ..
( كتاب الله ) .. حرير النور القاسمي في ( أنسوجة ) العامري الإبداعية
بقلم : يوسف الحمدان

    حينما تتجسد الأقوال في بلاغة الأفعال ، يصبح الحرف منجما لصوغ المعاني والدلالات والرؤى في أقصى تجلياتها ..
هكذا هو ، وفي كل أمر وبصيرة ، ناحت الفعل ومنبع تجليات صوغه حكيم الفكر والثقافة والفن الدكتور الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة ، فكل كلمة منه لا تصدر إلا عن فعل ، وكل فعل هو بمثابة بوصلة تستشرف رؤانا من خلالها طريقها إلى النور ، وما أبهى هذا النور حين تفيض التماعاته وتغمر بهو واحدا من أهم الصروح الثقافية والفنية في العالم ، وأعني به أكاديمية الشارقة للفنون الأدائية التي نسج القاسمي فيها روحه وحلمه مبنى ومعنى وقيمة لا نحتاج بعدها إلا إلى كثير من الفعل والتمدد في أرجاء منجم معانيه ودلالاته ورؤاه .

    وكان ( كتاب الله ) لمؤلفه المبدع الحالم الدكتور الشيخ القاسمي ، فاتحة البهاء في ليلة عرس هذه الأكاديمية التي تحلقت أرواحنا نحن ضيوف سموه من كل أقطار الوطن العربي حول بيانها الفني الإبداعي الأول وهو يتجلى جمالا وزهوا على خشبة مسرح الأكاديمية الكبرى .
لم لا وسموه يعتبر أحد أهم من استبر أعماق التاريخ العربي والإسلامي وصاغ منها نصوصا مسرحية مهمة وفريدة على الصعيد المسرحي العربي ، وقد جاز لي في سوانح نقدية سابقة أن أطلق عليه حكيم المسرح والفكر والثقافة في وطننا العربي ، والحاكم الوحيد الذي يرى من خلال المسرح أفق التطور والتقدم والارتقاء والتنمية في أوطاننا ، ويتصدى لها برؤيته الفكرية العميقة الفاحصة الشاخصة ورؤياه التي تروم تحقق المستقبل الأزهى والأفضل والأنجع لأمتنا العربية .

    مثل هذا الوهج النوراني يحتاج إلى مخرج استبر أعماقه وجرب اختبار رؤاه في أكثر من سانحة ، يحتاج إلى مخرج بقامة المبدع المغامر الذي لا تكف هواجسه عن مزاولة القلق إلا إذا حقق بعض ما تروم روحها منها من ألق ، وهل هناك مخرج عانقت أحلامه وراه أحلام المبدع القاسمي في أكثر من تجربة مثل محمد العامري ؟
هو الفنان الذي صاغت روحه الإبداعية سبائك العشق النوراني في مواجهة الظلام المستوحى من واقع مؤلم فاجع فادح ابتلت بمآربه وإرهابه أمة النور في كل أرجاء العالم ، تمكن مؤلف ( كتاب الله ) من الإمساك بتلافيفه ومخالبه التاريخية القديمة ومدى امتدادها وزحفها إلى خارطتنا الكونية حتى هذا اليوم وهذه اللحظة وربما الأيام التي تليها مالم يصبح لرسالة النور التي أطلقها القاسمي في فضاءاته الإبداعية والواقعية جدوى تجد من يتبناها ويؤمن به ويتماهى معها قولا وفعلا ، حاضرا ومستقبلا .

    لقد قدم المؤلف القاسمي في ( كتاب الله ) نصا مفتوحا ويحتمل التأويل ومشروعا يتملك قابلية التجسد أو التمسرح أو التخلق في فضاء العرض المعد أو المهيأ له ، ففيه ينتصر للنور على الظلام والحق على الباطل وذلك من خلال التاريخ العربي الإسلامي المضيء الذي تمثل في علماء ومفكري نهضته وخاصة إبان القرن الرابع للهجرة ، من أمثال جابر بن حيان وابن الهيثم والكندي والرازي وغيرهم ، وقد تمكن المخرج العامري من أن يفسح رؤيته الإخراجية حتى أقصى تجلياتها ، وذلك بنسجه الجمالي المتقن والمدهش لكل أنواع وتفاصيل وتضاعيف الفنون الأدائية التي يروم المؤلف القاسمي تحققها في أكاديميته المشرقة ، حيث يلتقي التمثيل بالرقص التعبيري أو الكوروغرافي بالسينوغرافيا الغرافيكية المعبرة والمذهلة بالإضاءة الموظفة الباهرة بالديكور الملفت الذي اختزل فضاءات تاريخية وراهنة ، حلمية وكابوسية ، درامية وملحمية ، هيأ للمخرج مساحات جمالية للتجسد الأدائي المفتوح وليس المنغلق .

    وقد تمكن العامري من استضافة كل هذه الجماليات باقتدار ابداعي محترف ، وكان دوره أشبه بالناسج لحرير النور البهي في هذا العرض ، حيث تستمد كل الأنواع والأشكال الأدائية ضوئها من بعضها البعض ، لتصبح أنسوجة إبداعية متعددة المعاني والدلالات ، كما هو النور في العرض ، حيث المصابيح وانعكاساتها وكتلها تتماهى مع أنوار الكتاب والتاريخ والأجساد والأزياء والماكياج وإيقاع الجسد الراقص المتعدد المتنافر المتعايش في أغلب الأحيان ، ولعل هذا التعايش صلب وجوهر قضية النور التي يدعو إليها المؤلف القاسمي في رسالته العميقة ( كتاب الله ) .

    ويتواشج هذا النسج الخلاق مع مخيلة المخرج العامري التي فتحت آفاق خلاياها على مقترحات اللعبة الأدائية بأكملها ، ليصبح المُشيّء من خلالها كائنا حيا يستثير لغات الأداء الحية التي تتعاطى معه الحوار والصراع ، كالتمثيل المتنقل الوامض والتعبير الحركي الراقص والأضواء والموسيقى التي بدت حية متجسدة موغلة في روح العمل كله بتنويعاتها النغمية والصوتية ومؤثراتها الترقبية والمؤثرة ، والتي لم تنفصل عن راوي ( كتاب الله ) بالغناء الفنان الإماراتي القدير حسين الجسمي وكوراله الذي يأتي في كثير من الأحيان بمثابة الجوقة المسرحية ، والذين يتعالقان أداء وتأثيرا مع سيد الخشبة الأدائية الفنان الإماراتي الكبير احمد الجسمي ومع الأداء الروحاني النوراني المتسامي الرهيف لفرقة أورنينا الاستعراضية ، إنها المخيلة التي أعطت ومنحت العرض كله أبعاده الجمالية والفلسفية وأكدت حضورها الدلالي والخلقي فيه ، كما أن هذه اللوحات لم تأتي في العرض لتستهلك كل تفاصيله بقدر ما كانت معمقة لكل حالات التحولات التي حدثت في واقع مجتمعاتنا العربية والإسلامية ، معضدة بالجهد الغرافيكي المميز الذي أحاله مصممه ومنفذه إلى فعل حي متحول يسرد ويجسد تاريخ الأمة الإسلامية منذ بدء فجرها المحمدي واعتناقها تعاليم كتاب الله وحتى الخراب الذي طال جسد هذه الأمة وفتت كيانها وعزلها عن هذه التعاليم النورانية ، وجميل الرؤية والمخيلة لدى المؤلف الدكتور القاسمي أن ينتصر للنور بعد أن أعتم غربان الخراب سماء البهاء، مستنيرا بالسور والآيات القرآنية التي لا تزال وستظل نبراسا يستضيء به كل من ينشد النور والسلام والحب والتعايش .

    لقد تمكن المخرج العامري أن يؤكد أنساق العلاقات الدرامية في كل مشهد في هذا العرض ، ويجعل منها متكآت إيحائية لأفعال مسرحية تتوالد وتتعدد معانيها ودلالاتها .
إن رسالة السماء النورانية ، هذه التيمة أو الفكرة التي تفتح أفقا في القراءة والتحليل ، مثلما تفتح نوافذ المخيلة على أقصى مدياتها ، أصبحت في هذا العرض مقترحا ديناميا لصور صفحاتها من نور وسلام ولكل صفحة فيها حكاية وحدث ، لذا جاءت كل اللغات المقترحة في هذا العرض بمثابة صفحات لكتاب يجمعها في نهاية العرض ويوحد كلماتها ( كتاب الله ) الذي ظل ماثلا وشاهدا على تاريخ هذه الأمة التي لم تتمكن من غزو بيانه المجيد مهما أوتيت من حيل وشراك .

    وللمخرج يحسب أيضا أنه لم يلجأ للمفردات المباشرة والصريحة في العرض ، كالصراع المباشر بين النور والظلام بوصفهما أبيض وأسود ، بقدر ما اهتم وركز على الاشتغالات الإيحائية التي تمنح الفعل دلالات أعمق وتأثيرات أكبر ، مدركا أن هذه فكرة قديمة ساذجة تحتفي بالمظهر السائد ولا تنظر إلى دواخل النفس و( أمّاراتها ) السيئة.
إنها رسالة القاسمي السامية حقا ، والتي جعلها موجهة لمجتمع برمته دون تمييز بين رجل وامرأة ، وما أجمل وأبدع تلك اللوحة التي دعا فيها سيد النور على الخشبة ( أحمد الجسمي ) المرأة لمشاركة الرجل في النهضة والتقدم والتنوير ، فقد كانت واحدة من أبدع اللوحات ، حيث يتحولن النساء إلى حمامات سلام يجبن بخفتهن ورهافتهن فضاء المسرح كله ليعم من خلالهن النور كل من في المسرح وليصبح المجتمع برمته مكتملا بهن وبرسالتهن المسالمة النورانية المحبة .
وأخيرا أقولها بملء فمي ومن أعماق قلبي : نعم يستحق منا حكيم المسرح الدكتور الشيخ القاسمي أن نكافؤه بمثل هكذا عرض وهو المهموم الحالم بأمة من نور وسلام .. فسلام على رسالة النص بهكذا رؤية للعرض ..

    فتحية نور وسلام إلى من غمرنا ببهاء حلمه ورسالته في دارته الكريمة الباذخة ، وفي حفل افتتاح أكاديميته المشرقة ، المؤلف المفكر الحكيم الدكتور الشيخ سلطان بن محمد القاسمي ..

وتحية نور وسلام إلى صناع البهاء في كتاب الله ..
مؤلفه الدكتور الشيخ سلطان بن محمد القاسمي
مخرجه محمد العامري
سيد النور الممثل القدير أحمد الجسمي
الفنانين عبدالله مسعود وعبدالله بن حيدر وأحمد يوسف ورائد الدالاتي
الفنان الكبير حسين الجسمي
المجاميع جوالة مفوضية كشافة الشارقة المجاميع
الملحن إبراهيم الأميري
مهندس الديكور وليد عمران
الماكياج ياسر سيف وشقيقه علي سيف
الأداء الحركي والتعبيري واللوحات الاستعراضية فرقة أورنينا الاستعراضية تصميم وإشراف ناصر إبراهيم
الغرافيك كنان شمسي وبانكاج راتواني
الإضاءة ماجد المعيني وحميد العسيري
الأزياء مجيد حميد وعبدالله أحمد ونزهة محمد
الفرقة الموسيقية بقيادة أحمد أشرف
الإداريون :
إشراف عام : أحمد الجسمي وأحمد بورحيمه ويحيى البدري وعلي طالب ومحمود هاشم

يوسف الحمدان

(المصدر : إعلام الهيئة العربية للمسرح)

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش