أنا كارمن.. حب.. قهر.. جنون / محمد الروبي

المصدر / مسرحنا / نشر محمد سامي موقع الخشبة

في طريقي إلى مسرح الطليعة ملبيا دعوة الممثلة المخرجة سماء إبراهيم لمشاهدة عرضها «أنا كارمن»، عادت بي الذاكرة إلى عام 1997 حين صادفت هذه الفتاة لأول مرة تقدم عرضها

الأول “حبه ك.. حبة ه” ضمن فعاليات مهرجان نوادي المسرح بالإسماعيلية. تذكرت كم كانت تلك الفتاة مبهرة بعرضها المختلف عن قضية أولاد الشوارع، فتنبأت لها آنذاك بمستقبل مسرحي باهر. وها هي الفتاة التي نضجت على نار هادئة، تبهرني بعرض جديد من تأليفها وإخراجها وتمثيلها.
“أنا كارمن” عرض مونودراما صاغته سماء من عرضين سابقين لها وهما “أنا كارمن” و”أقول إيه” ضفرتهما معا لتصنع منهما عرضا شديد الخصوصية.
وعلى الرغم من انفصال العرضين تماما في الموضوع الذي يتناوله كل منهما، فإن المخرجة نجحت في الربط بينهما بخيط رقيق برر تقديمهما في ليلة واحدة؛ إذ جعلت من العرض الأول “أنا كارمن” تمهيدا أو استعدادا لتقديم العرض الثاني “أقول إيه”.
«أنا كارمن».. عنوان سيحيلك بالضرورة إلى قصة «كارمن» الشهيرة، التي خلدها الموسيقار جورج بيزيه في واحدة من أروع وأهم أوبرات العالم، وقد يجعلك تظن للوهلة الأولى أن سماء إبراهيم قد عكفت على تمصيرها لتتحول على يديها إلى «كريمة» أو «كركر» أو غيرها من أسماء تتيح لها الاستفادة من صراع كارمن الشهير بعد أن تنقله إلى شوارع مصر وأحد مصانعها. إلا أنك سريعا ما ستنفض عنك هذا التصور بعد أن تفاجئك الكاتبة والمخرجة بموضوع مغاير تماما كانت كارمن بيزيه فيه خلفية لشخصية أخرى، مصرية حتى النخاع.
يبدأ العرض بدخول امرأة من باب الصالة ترتدي بالطو أبيض وتضع نظارة طبية سميكة تبتلع نصف وجهها وتغطي رأسها بإيشارب يكاد يخفي جزءا من شعرها، تمسك بمقشة طويلة تكنس بها المسرح وتتحدث إلى نفسها بكلمات حانقة تصب غضبها على مدير المسرح الذي يضطهدها دوما ويكلفها بأعمال تليق بكتيبة.
حين تصل العاملة إلى منطقة التمثيل تكون قد قدمت نفسها إليك تقديما سلسا ستعرف من خلاله أنها تنظف المسرح ليستقبل عرض “كارمن” الذي تعشقه، والذي تحفظ جمله الحوارية عن ظهر قلب. وستبرر لك في تقاطعات مع حياتها الشخصية وعبر حكاياتها عن أكثر من كارمن مصرية صادفتها في الحياة، لماذا انحازت إلى شخصية كارمن ضد حبيبها ولماذا حزنت حزنا كبيرا على موتها، مستفيدة من تلك الإكسسوارات البسيطة المتناثرة لتعينها على التحول من كارمن بيزيه إلى عاملة المسرح، والعكس. ووسط هذه التقاطعات والتداخلات ستنجح سماء إبراهيم باعتبارها مخرجة في الحفاظ على روح كارمن بيزيه من خلال حفاظها على اللحن الأساسي الذي منحه الموهوب محمد حسني مذاقا خاصا يليق بمعاناة العاملة المصرية، وهو ما تجلى في الأغاني التي تخللت العرض وشدت بها الممثلة.
واتساقا مع شكل الدائرة سيعود العرض إلى لحظة البداية، لحظة العودة إلى الشخصية الأولى، شخصية العاملة العانس التي تعود إلى عملها المنهك الذي لا ترضاه ولا يرضي طموحها. وكان من الطبيعي آنذاك أن تحظى سماء بتحية طويلة من جمهور المسرح المكشوف الذي سينتبه فجأة إلى صوت المذيع الداخلي يعلن عن بداية العرض بعد قليل ليؤكد على أن ما رأيناه لم يكن إلا بوح عاملة مسرح تؤهل المسرح لعرض لم يبدأ بعد.
قبل أن يهدأ الجمهور سيسمع ضجة صاخبة وأصوات شجار تأتيه من خارج المسرح، وفجأة ستدخل الممثلة نفسها من الباب الخلفي للصالة ترتدي شخصية جديدة تماما، تعبر بذعر شديد عن استيائها من محاولات رجال أمن المسرح منعها من الدخول وتقديم عرضها.
وعلى طريقة العرض الأول، لن تصل الممثلة إلى منطقة التمثيل قبل أن تقدم نفسها إليك؛ إذ تتساءل بغضب عن سر منعها من تقديم عرضها الخاص، ولماذا يرفضون بوحها بحقائق يعرفها الجميع بل ويهددونها بقطع التيار الكهربائي عن عرضها إذا أصرت على تقديمه.
إذن، فهي ممثلة لكنها ومع توترها الشديد تنسى أي عرض كانت تنتوي تقديمه هذه الليلة، وتتساءل معنا «أقول إيه؟» ليتيح لها السؤال انتقالا مبررا من شخصية إلى أخرى ومن حدث إلى آخر. وفي كل شخصية ستشعر بصفتك متلقيا أنها تنويعات مختلفة على شخصية كارمن العاملة العانس في العرض الأول، معتمدة في انتقالها بين الشخصيات على تقنية نسيانها التي أكدت عليها في بداية العرض، ومن ثم سؤالها المتكرر “أقول إيه؟” كممهد للشخصية الجديدة.
في البداية ستختار الممثلة أن تبدأ بالحب الذي تظنه الأجدر بالحكي، لكن حديثها سيجرها ويجرنا إلى علاقة مشوهة بين امرأة تهفو إلى الحب ورجل متزوج يكتفي بممارسة سريعة عبر الهاتف. وهو ما سيلقي بها إلى ذكرى أخرى عن امرأة أخرى هي كارمن الفلسطينية، التي حرمها الاحتلال من وزجها بعد أن غيبه في سجونه سنوات طويلة كانت بالنسبة لها سجنا موازيا قضبانه الحرمان.
ومن كارمن الفلسطينية إلى كارمن زوجة البواب التي تدخل معركة يومية للحصول على بضعة أرغفة تطعم بها أبناءها. ثم كارمن المرأة المدعية، الداعية لجمعيات نسائية لا يستفيد منها سوى عضواتها الثرثارات. ثم كارمن التي كانت الرجل (كرم) ولم يحتمل القهر فاختار أن يتحول، ويمتهن الرقص الشرقي. لينتهي العرض برقصة هي أقرب إلى رقصة طير مذبوح، تزيد من شجنها دموع الممثلة المختلطة بضحكاتها، فتتوجه بانكسار إلى حيث الباب الخلفي للصالة لتخرج من حيث دخلت. فتضج الصالة بتصفيق يدشن سماء إبراهيم ممثلة قادرة ومخرجة صاحبة رؤية نجحت في أن تتدرج بمتلقيها من حالة إلى حالة وتضعه مباشرة أمام همومه اليومية في إطار من متعة أدائية كانت البساطة عنوانها الرئيسي.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *