أنا أوروبا” تشخيص لأدواء القارة العجوز بأكثر من لغة / أبو بكر العيادي

مسرحية للمخرج الألماني فالك ريختر تطمح إلى تحذير الأوروبيين من التفكك والذاتانية الشاكية والعنصرية.

أنا أوروبا” عرض يمزج بين المسرح والرقص والفيديو والموسيقى، أراد الألماني فالك ريختر من خلاله تصوير جيل يقف متسائلا عن التقلبات السياسية والأيديولوجية التي تهز القارة العجوز، فيرتدّ إلى الأصول ويستشرف المستقبل.

ثمانية فنانين من بلدان شتّى، ومن أوساط اجتماعية مختلفة، ومن مشارب ثقافية متنوعة، يجمعهم حذقهم عددا من اللغات، وبراعتهم في الرقص والتمثيل، ورغبتهم في الأخذ بيد قارة تنهشها الفاشية الناهضة من سبات، وتمتصّ دمها الرأسمالية الشرسة، ويرهقها حدّ الاختناق المشروع المشترك لبناء وحدة متكاملة.

وأوروبا التي لا يزال يحلم بها المخرج الألماني فالك ريختر ورفاق مشواره التمثيلي أقرب إلى المثل الأعلى الذي حفظه في ذاكرته قبل المعاهدات الاقتصادية، أوروبا الأخوين فيلهيلم وألكسندر فون هومبولت، وحركة التنوير الألمانية Aufklärung، ومثيلتها الإنكليزية Enlightenment والأنوار الفرنسية Lumières، أوروبا أكاديميات العلماء والفنانين الذين ربطتهم بنظرائهم الفطنةُ والموهبةُ اللتان يمتلكونهم دون اعتبار للمكان الذي استوطنوه ولا للوطن الذي ولدوا فيه.

ذلك الحلم، عمل ريختر على تحقيقه بجعل الخطاب متعدّد اللهجات، ناطقا بلغات الشعوب التي ينوي لقاءها في هامبورغ وزغرب، في فيمار وبولونيا الإيطالية، وفي بودابست وجنيف، أي في عدد من بلدان أوروبا حيث المشاغل والهموم، والرغبات والمطامح هي نفسها أو تكاد.

فالمسرحية تطمح إلى تحذير الأوروبيين من التفكك والذاتانية والعنصرية وجرائر هوس المال. ولئن أرادها ريختر شهادة على الضيق الذي يعيشه الأوروبيون، فإن المسرحية تذكر السياسيين بأن الوقت حان لتجاوز الذاتانية الشاكية والتقدّم معا يدا بيد.

جاء العنوان بالإنكليزية “I am Europe” أول لغة تواصل وتبادل بين البلدان الأوروبية، حتى الأجوار منها (فرنسا/إيطاليا؛ إسبانيا/فرنسا؛ ألمانيا/إيطاليا؛ فرنسا/ألمانيا..) ولكن الخطاب كان ملتقى للغات والثقافات والتواريخ التي تتألف منها أوروبا، خطاب نهض به ثمانية فنانين من جهات مختلفة، حمل كل واحد اعتزازه بجذوره، وبلغته الأصلية، فكان الحديث على لسان كل واحد منهم بلغة، من الفرنسية والألمانية والهولندية والإنكليزية إلى الإسبانية والبرتغالية مرورا بالكرواتية والعربية، ليروُوا جانبا من حياتهم، مع حضور أوروبا كدعامة حميمة لا تنفصل عن المعيش اليومي.

فالممثلون، بانتماءاتهم المختلفة، يجسمون أوروبا السائرة إلى الأمام، أوروبا التي محت حدودها لكي تراهم ينعمون بالحياة، ويعملون، ويحبون بعضهم بعضا خارج حدود الدول /الأمم.

بيد أن الحلم الأوروبي المشترك، كما بدا في الحركات الكوريغرافية التي صاغها نير دي فولف، بدا من خلال الراقصين أقرب إلى شفير الهاوية، بسبب انتشار الخطاب الشعبوي، وعودة القوميات، وتصاعد العنصرية، ما جعل أوروبا تسير بلا بوصلة نحو وجهة غير معلومة، بل إنها توشك على التشظّي والتفكك.

الممثلون، بانتماءاتهم المختلفة، يجسمون أوروبا السائرة إلى الأمام، أوروبا التي محت حدودها لكي تراهم ينعمون بالحياة، ويعملون، ويحبون بعضهم بعضا خارج حدود الدول

ومردّ ذلك إلى ما سبق ذكره، إضافة إلى الليبرالية الجديدة التي كان من أسباب نزوعها إلى الهيمنة جنوح الشعوب إلى الفاشية الجديدة، تلك الشعوب التي أحست أن النخبة لم تعد تبالي بمشاكلها، بل صارت لا تفكر إلاّ في مصالحها الخاصة، مثلما أحست فئات أخرى، لاسيما الأجيال الجديدة، بأنها تحمل جروح عصر كولونيالي، تستّر عليه الجميع دون أن يحسنوا تضميده، فولّد في نفوسهم نقمة، إذا كمنتْ عطّلتْ، وإن تجلّت فتَكتْ.

فالحكايات التي وردت على ألسنة الممثلين (غابريال دا كوستا، مهدي جعادي، دوغلاس غرويلس، بيرستن ليروم) والممثلات (لانا باريتش، خديجة الخراز علمي، تاتيانا بيسّوا، شارلين بلعربي) تعكس ما يحياه الأوروبيون من قلق وصعوبة عيش في قارة تنبذ الأجانب، وتضع البسطاء والمستضعفين على هامش السلطة، وخارج دورة الاستهلاك.

ولكن دعوتها في الغالب إلى التحرر من كل قيد كوسيلة لمقاومة تغوّل الليبرالية الجديدة والعولمة، فيه نوع من السذاجة الأيديولوجية، فليس بالحرية الجنسية وزواج المثليين وإلغاء الجندر ستحل مشاكل البلاد والعباد.

وليس غريبا أن تحضر أوروبا كلها في عمل فني، فقد باتت هويتها نفسها موضع تساؤل في هذه المرحلة المتقلبة، أو لنقل إن الجواب عن السؤال “ما هي أوروبا؟” أصبح اليوم مستعصيا. ومن ثَمّ فضل ريختر أن يمنح كل واحد فرصة رواية سرديته، سردية أجداد وآباء كانوا مرغمين على إظهار بطاقات هويتهم كي يجتازوا الحدود، وأقارب هربوا من أوطانهم ولجؤوا إلى أوروبا تحدوهم آمال عراض.

ومقارنة ذلك بما يحدث اليوم، حيث الحدود متمنّعة، مسيّجة بالأسوار والأسلاك، مطوّقة بالعسس وكاميرات المراقبة، وحيث الأبواب مسدودة لا ينفذ منها إلاّ القليل، كقطر المزاريب، وحيث القيم ملقاة في سلة المهملات والمبادئ الإنسانية الكبرى نهبٌ للتلف والنسيان.

والغاية، سبر تاريخ الممثلين والممثلات المنحدرين من بلدان مختلفة وتبيّن علاقتهم بالقارة العجوز، ونظرتهم إليها وهي تعيش فترة متقلّبة، قد تنسف حلم البُناة الأوائل.

يقول ريختر “في هذا المشروع، حاولت أن أنظر إلى أوروبا من خلال شخصيات مختلفة لأفهم ما تعنيه أوروبا في حياة كل واحد منهم، لاسيما أنهم نشؤوا في عدة بلدان، بعضهم من أصول كانت خاضعة للاستعمار، وبعضهم الآخر من أصول بورجوازية بيضاء، فهم مختلفون، ولكنهم يلتقون في البحث عن موقع لهم أمام التناقضات الكبرى التي تواجهها أوروبا الآن”.

______________

المصدر / العرب

موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *