أمبرتو إيكو.. المقاربة الاستثنائية في تلقي المسرح

بوفاة الفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو فقدت الثقافة الإنسانية منظّرا ومبدعا رفيع المستوى، ترك أثرا بالغا في حقول أدبية وفكرية وفنية مختلفة كفلسفة اللغة وعلم العلامة ونظرية التلقي والتأويل والدراسات السردية، التي بحث ونظّر في أشد قضاياها تعقيدا خلال ما يزيد على نصف قرن، إلى جانب رواياته التي جعلت منه واحدا من أبرز الروائيين المعاصرين في العالم، مثل “اسم الوردة” (1980)، “بندول فوكو” (1988)، “جزيرة اليوم السابق” (1994)، “مقبرة براغ” (2010)، و”العدد صفر” (2015).

دور المتلقي

في سياق نظريته عن التلقي قدّم إيكو مقاربة خصبة للتلقي في المسرح تستند إلى سيميوطيقا (علم العلامة) القراءة، وهي تشكل جزءا من اهتمامه الواسع بدراسة سيميوطيقا العالم الأميركي تشارلس ساندرز بيرس بشكل عام، التي تقوم على مبدأ أساسي مفاده أن العلامة شيء تفيد معرفته في معرفة شيء آخر، فهي توجّه لشخص ما، مولدة في ذهنه علامة معادلة، أو ربما علامة أكثر تطورا هي مفسرة للعلامة الأولى، وحينما تنوب العلامة (أو المصوِّرة) عن شيء ما، وهو موضوعها، فإنما تقوم بذلك من خلال رجوعها إلى نوع من الفكرة التي يسميها بيرس ركيزة.

لقد قام إيكو، انطلاقا من تلك المقولة، بدراسة دور القارئ في عملية إنتاج النصوص، فالقراءة تبدأ باستثارة معجم المعاني المحتملة للمفردات المقروءة، الذي يفضي إلى إقامة العلاقات النصية بين وحدات النص، وفي أثناء هذه العملية غالبا ما يرجئ القارئ الغامض عليه من العلاقات النصية حتى ظهور إشارات نصية توضحه.

ويحدث مثل هذا التنامي، أو التطور في العملية القرائية دائما من خلال عملية انتقاء أطر الفهم والتأويل، ويمكن للقارئ استقاء هذه الأطر من النص ذاته (أي أن معنى كلمة ما يجري التحقق منه من خلال السياق الذي قيلت فيه الكلمة، أو من القواعد التي تحكم الجنس الأدبي (مثل المواضعات الأدبية)، كما يمكن اكتسابها من خلال الكفاءة التناصية، أي وضع النص في مقابل نصوص أخرى قُرئت من قبل.

العلامة شيء تفيد معرفته في معرفة شيء آخر، فهي توجه لشخص ما، مولدة في ذهنه علامة معادلة أو أكثر تطورا
وفي دراسته “سيميوطيقا العرض المسرحي”، التي يعتمد فيها المنهج ذاته، يرى إيكو أن المتلقي، في اللحظة التي يتقبل فيها المواضعات الإخراجية، يصبح كل عنصر من ذلك العالم الذي جرت صياغته على الخشبة (أي في العرض المسرحي) له دلالته.

إلاّ أنه في إطار الصياغة الإخراجية لا يكون تعامل المتلقي مع التجسيد الخطي للنص فقط، بل مع مجموعة من الأنظمة العلاماتية التي تتألف من ثلاثة عشر نوعا من العلامات، كما حددها تاديوز كوزان في كتابه (الأدب والعرض المسرحي)، وهي: الكلمات، التعبير الصوتي، المحاكاة بالوجه، الإيماءة، حركة الجسد، الماكياج، أغطية الرأس، الملابس، الإكسسوارات، الديكور، الإضاءة، الموسيقى، والضوضاء.

ويحدد إيكو سمتين مميزتين للعرض المسرحي تؤثران على طبيعة التلقي المسرحي الجماهيري: الأولى عملية تكوين العلامة المسرحية على الخشبة، تلك العلامة التي لا تمثلها اللغة، كما فهو الحال في النص المكتوب، بل يمثلها شيء، أو شخص حقيقي.

ويرتبط بهذه العملية وعي المتلقي بالممثل، بوصفه ممثلا (وهذا منظور بريشتي أيضا)، الأمر الذي يعمل طوال الوقت على إبراز حقيقة أن عالم خشبة المسرح هو عالم مخلوق ومتخَيّل. أما السمة الثانية فإن المتلقي حينما ينظر إلى شخصية منبوذة في العرض المسرحي قد يضحك عليها، أو يسبها، في إطار عملية التغذية المرتجعة، أو قد تبدر منه ردود أفعال إزاء ردود أفعال المتلقين المحيطين به، ومن ثمّ فإن الرسائل المسرحية تتشكل، أيضا، بواسطة عملية التغذية المرتجعة التي ينتجها الطرف الآخر من عملية الاتصال.

دور المتلقين نفهمه داخل بنية العرض المسرحي في إطار مجموعة العلاقات المتشابكة بين عناصر هذا العرض
إن النموذج الذي يقدمه إيكو يهتم، بشكل واضح، بظاهرة تعدّد المستويات الملازمة لأيّ عرض مسرحي، ولا يمكن فهم دور المتلقين داخل بنية العرض المسرحي فهما كاملا إلاّ في إطار مجموعة العلاقات المتشابكة بين عناصر هذا العرض.

المؤلف والقارئ

وإذا جاز لنا إحالة رؤية إيكو للعلاقة بين المؤلف والقارئ (المرسل والمتلقي في نموذج الاتصال اللغوي الذي اقترحه جاكوبسن) على العلاقة بين منتجي العرض (كون المسرح يتميز بتعدد المرسلين، كالمؤلف والمخرج والممثلين والفنيين) والمتلقين، فإن النتيجة ستكون كالآتي: حينما يجري إنتاج عرض ما، لا لكي يشاهده متلق بعينه، بل لكي تتداوله جماعة كبيرة من المتلقين، فإن منتجي العرض، وفي مقدمتهم المخرج، يدركون أن هذا العرض لن يؤوَّل وفق رغباتهم، بل وفق استراتيجية معقدة من التفاعلات التي تستوعب داخلها المتلقين بمؤهلاتهم الثقافية بوصفها موروثا اجتماعيا.

وانطلاقا من ذلك فإن فعل التلقي هو تفاعل مركب بين أهلية المتلقي (معرفة الكون الذي يتحرك داخله)، وبين الأهلية التي يستدعيها العرض لكي يُتلقى تلقيا اقتصاديا. وما يقصده إيكو هنا بـ”التلقي الاقتصادي”، كما نستوحيه من سياق كلامه عن التفاعل بين القارئ والإرث الثقافي والاجتماعي للنص المقروء، وتفريقه بين تأويل النص واستعماله، هو التأويل الذي يحترم خلفية النص الثقافية واللسانية، ويراعي نواياه، التي هي نوايا ذلك المؤلف النموذجي (الذي يختلف عن المؤلف الفعلي) بوصفه استراتيجية نصية، وفقا لقواعد وضوابط تأويلية يمكن من خلالها الحسم في صحة التأويل.

 

http://elbashayeronline.com/

http://elbashayeronline.com/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *