«مركب بلا صياد» حب فى شباك التوبة والمغفرة / هند سلامة

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

من النادر أن يسيطر عالم الدراما التليفزيونية على المسرح ففى الوقت الذى تزدحم فيه شاشات الفضائيات بأعمال درامية لا حصر لها لا يستحق الكثير منها عناء الدأب والمشاهدة، يأتى الكاتب الأسبانى أليخاندرو كاسونا ليمحو بأنامله ثرثرة الدراما الرمضانية ويأخذك إلى عالمه الخاص عالم أكثر حبا وخيالا وإيمانا وحساسية، فى مسرحيته الأشهر «مركب بلا صياد» التى تعرض حاليا على خشبة مسرح مركز الهناجر للفنون.
«مركب بلا صياد» أقرب إلى عالم المسلسلات الدرامية جيدة الصنع والتى تجبر المشاهد على الجلوس ومتابعتها حتى الحلقة الأخيرة، فبرغم طول مدة العرض والتى تجاوزت الساعة ونصف الساعة، إلا أن المشاهد لن يشعر معه بطول الوقت من متعة الإيقاع وتسلسل الأحداث وسحر وعمق الشخصيات الدرامية التى رسمها المؤلف، تناول كاسونا أفكارا إيمانية متعددة بدءا من فكرة اعتباره أن الحياة مركب بلا صياد، فنحن نسير ولا نعلم إلى أين ستأخذنا الحياة، هل سيظل إيماننا بالأشياء كما هو أم من الممكن أن تتبدل الأحوال ويتحول هذا الإيمان، بدءا من فكرة الإيمان بقبول الموت وفراق الأحبة وانتهاء بالتسامح والمغفرة لمن قتل هذا الحبيب، فهل نحن قادرون على التسامح والمغفرة، وهل نحن قادرون على التوبة والاعتراف بالخطأ، وهل فى استطاعتنا مقاومة الشيطان بكل ما يحمله من إغراءات، أسئلة كثيرة يطرحها العمل فى إطار الحب والتسامح والموت والحياة، تدور أحداثه حول سيدة فقدت زوجها الصياد فى حادث ظن من حولها أنها عاصفة أطاحت به من مركبه وهى تصر على أنه حادث قتل عن عمد ارتكبه زوج اختها الغيور، وفى نفس الوقت نرى رجل أعمال فاسدا يقع ضحية لأفعاله ويفقد ثروته، وفى لحظة سكر يتخيل أو يتجسد له الشيطان فى هيئة إنسان يعده بإعادة أملاكه إليه وكل ما فقد أمام شرطا واحدا أن يرتكب جريمة قتل وإذا ارتكب هذه الجريمة سيعيد له كل شيء ثم يوهمه فى هذه اللحظة أنه عبر نحو الجنوب وقتل نفس الرجل «الصياد» الذى تبكيه زوجته وتصرخ حين وقوع الجريمة، تدور الأحداث بالتوازى فى الخمارة ومنزل هذه السيدة الذى يجمعها بجدتها فقط.
نجح مهندس الديكور ومصمم الإضاءة فى صنع حالة من الكآبة والحزن بتصميم متقن وكذلك فى نقل عالم هذا الصياد وريح منزله إلى الحاضرين، فالمنزل صنع بالكامل من الخشب تحيطه من أعلى شباك صيد فى أكثر من ركن ومدفئة وضعت على أطرافه، فإذا شئت اعتبرت هذا المنزل قابلا إلى الهدم أوالاشتعال فى لحظة بسبب ما تحمله صاحبته من نار متأججة بداخلها ضد زوج اختها، وهو بالتبعية ما سيفسد علاقتها بها فإختارت الصمت مستسلمة إلى أحزانها وكررت على لسانها دائما «اتمنى أن أكون مثل هذه الشبكة لا أشعر و لا أبوح بشيء»، فأصبح المكان على حافة الهدم والاشتعال من طبيعة بنائه الخشبية الضعيفة أوعلى وشك دخول هذا القاتل إلى المصيدة فى هذه الشباك المعلقة بأركانه أو ربما وقوعها هى فى شباك الحب الذى يدفعها إلى المغفرة ثم يدفع حبيبها إلى الوقوع فى شباك التوبة والاعتراف بالذنب، أو إن شئت اعتباره إيحاء لمهنة هؤلاء الذين يعملون بالمراكب والصيد فمن الطبيعى أن توحى طبيعة منازلهم وحياتهم اليومية بطبيعة مهنتهم التى اعتادوا عليها، فى كل الأحوال نجح بجدارة مهندس الديكور ومصمم الملابس والإضاءة فى وضعنا داخل حياة هؤلاء وإزداد العمل حميمية بتمصيره واعتماده على اللغة العامية الدارجة، وبمزيج من المتعة وإحياء لقيم التوبة والعفو والمغفرة تدور أحداث «مركب بلا صياد» التى اشتراها زوجها بعد عناء واحتفظت بها ساكنة لا تتحرك بوفاته.
كانت مفاجأة العرض عودة الفنانة راندا للتمثيل والأضواء من جديد بعد غياب سنوات، والتى قدمت دورها بمهارة ولعبت شخصية الزوجة الأرملة المعذبة التى تعيش صراعاً بين الكتمان والبوح بسر مقتل زوجها على يد زوج أختها وبين كراهيتها للمغفرة حتى عند شروعها فى تناول الطعام ترفض الدعاء بأن يمنحها الله القدرة على المغفرة وتصرخ رافضة هذا الغفران ثم تقرر العفو عنه وتهدأ روحها بعد أن علمت بإصابته الشديدة فى حادث شق صدره إلى نصفين فتذهب كى تؤكد له أنها سامحته؛ بعذوبة وبساطة شديدة ادت راندا دورها وكذلك الفنانة منحة زيتون جدتها السيدة العجوز التى تحثها على ضرورة البحث عن رجل لأن المنزل بلا رجل فقد دفئه وجماله وأصبح مملا رتيبا بلا روح أو رائحة قدمت منحة هذه الشخصية بسلاسة غير معهودة واستطاعت خطف اعين الجمهور لها والسيطرة عليه بأدائها من اول العمل وحتى نهايته وكذلك كان هانى عبد الناصر فى دور الشيطان قدمه بخفة وسلاسة واحتراف، وعمرو قابيل فى دور رجل الأعمال الفاسد ثم التائب، وإبراهيم فرح فى دور الصياد ومحمد فتحى ومى رضا أخت البطلة، كما كان للغناء والموسيقى فضل كبير فى إضفاء ومضاعفة المعايشة لأجواء العمل، فقدم فريق العمل بالكامل توليفة مسرحية تليفزيونية غير متكررة كثيرا على خشبة المسرح فحتى نهاية العرض بتحية الجمهور قدمت وهم يستعدون للاحتفال معا بانتصار الحب والألفة بينهم ويدعون الله بمباركة طعامهم ثم أغلق العمل على ذلك تماما مثل الحلقة الأخيرة التى تنتظرها فى نهاية العمل، فكأنك خرجت من منزلك كى تتابع وجهاً آخر للمسرح، وعالم أكثر عمقا ومتعة وحساسية من الدراما الرمضانية.
«مركب بلا صياد» موسيقى وألحان حازم الكفراوي، ديكور محمد زكريا.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *