عودة فؤاد حداد في مسرحية شعرية مثيرة للجدل / شريف الشافعي

المصدر / العرب / نشر محمد سامي موقع الخشبة

حي على بلدنا” مهارات فردية في الإلقاء والإنشاد والغناء والتوزيع الموسيقي، تستقي خصوبتها وحيويتها من شلالات فؤاد حداد الشعرية التي لا تنفد، لكنها لم تتمكن من الانتظام في مباراة جماعية منضبطة.

المخرج أحمد إسماعيل والمُعِدّ أمين حداد أعلنا عن إضاءة أنوار المسرح القومي العريق في القاهرة بنص مشغول من دواوين الشاعر الراحل فؤاد حداد بعنوان “حي على بلدنا”، لكن المسرح “أبو الفنون” لم يرضَ عن العمل المنسوب إلى “والد الشعراء”.

فؤاد حداد، أحد رموز شعر العامية المصرية، تتميز تجربته بخصوبة وثراء وزخم وقيمة جمالية عالية، فضلا عن تشبعها بالحس الوطني وانغماسها في القضايا الاجتماعية والسياسية والإنسانية، الأمر الذي جعله الأقرب إلى تلمّس معطيات ومفاتيح الشخصية المصرية والتعبير عن همومها واهتماماتها ومعاناتها مع الحكومات والأنظمة عبر العصور، خصوصًا في ديوانه الأبرز “المسحراتي”، الذي لحن قصائده الموسيقار الراحل سيد مكاوي.

هذه الشعرية الفياضة المتدفقة أغرت صنّاع العرض المسرحي “حي على بلدنا” باستثمار تراث فؤاد حداد من أجل صياغة عمل درامي غنائي يحمل اسمه، وينبني على قصائده ذائعة الصيت، وقد تولت فرقة المسرح القومي بالقاهرة إنتاج العمل وتقديمه يوميّا حتى نهاية شهر رمضان بشكل مبدئي، لكن العرض جاء مثيرا للجدل وطرح العديد من التساؤلات.

ثراء النص الشعري أهدره فقر المعالجة وتهافت العناصر المسرحية من حبكة وصراع وإخراج وديكور وملابس وقدرة على تحريك الشخوص في بناء محكم

أمر يبدو مدهشا، في ظاهره، أن تشدّد وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبدالدايم على الدور المهم للمسرح في شحذ الهمم وترسيخ الهوية الوطنية وطرح حلول لمشكلات المجتمع، على اعتبار أن المسرح ليس فقط وسيلة تثقيف للإنسان، وإنما يسهم كذلك في تعميق روح القيادة والمبادرة، وأن يصبح المرء ضمير أمته.

في هذا الإطار البراق، احتفت وزيرة الثقافة بالعرض المسرحي “حي على بلدنا” المأخوذ عن أشعار فؤاد حداد (1928-1985)، والذي أعده للمسرح القومي ابنه الشاعر أمين حداد وأخرجه أحمد إسماعيل، واشترك في بطولته: أشرف عبدالغفور، مفيد عاشور، عهدي صادق، المطرب محمد عزت، رحاب رسمي، والمطربة نهال.

اتخذت إيناس عبدالدايم انطلاق “حي على بلدنا” على خشبة المسرح القومي العريق بالعتبة في وسط القاهرة فرصة للتأكيد على الدور الاجتماعي (الوظيفي) للمسرح من جهة، ولتكريم اسم الشاعر فؤاد حداد من جهة أخرى، حيث سلمت نجليه أمين وسليم حداد درعًا تذكارية.

الأمر الجوهري الذي سقط سهوا من حسابات وزيرة الثقافة، هو ذاته الذي تغافل عنه صنّاع عرض “حي على بلدنا”، عن تكاسل أو عدم وعي، وهو ببساطة: هل تنتمي هذه المعالجة أساسًا إلى فن المسرح؟ وهل يَرضَى “أبو الفنون” عن هذا التوظيف البدائي الفج لقصائد “والد الشعراء” في إطارها الدرامي الجديد؟

غياب الرؤية والمعالجة

تبدو قصائد فؤاد حداد التي تضمنها عرض “حي على بلدنا”  عبارة عن لوحات فنية بديعة، تعج بها دواوينه التأسيسية في مسيرة شعر العامية المصرية، بل لعلها الأعمال الشعرية الأبرز والأكثر نضجًا على الإطلاق في تاريخ حركة الشعر الشعبي الحديث بمصر.

لم يكتب فؤاد حداد مسرحًا شعريًّا، ولا يوجد كتاب له يحمل عنوان “حي على بلدنا”، لكن قصائده تتميز عادة بحس ملحمي، وصبغة درامية، وتعتمد كثيرًا على الحوار بين شخوص يمثلون طبقات اجتماعية ومهنًا مختلفة، كما أن آلية السرد فيها واضحة، والحكي التفصيلي يغذي النزعة القصصية.

بمثل هذه القصائد، حفلت دواوين فؤاد حداد الشهيرة، ومنها: “أحرار وراء القضبان”، “حنبني السد”، “قال التاريخ أنا شعر أسود”، “المسحراتي”، “نور الخيال”، “كلمة مصر”، “التسالي”، “الرقصات”، وغيرها.

من هنا، تبدو فكرة صياغة “دراما شعرية” بأكملها من عبارات فؤاد حداد الشعرية مثيرة للجدل، فالفرق كبير بين قصائد ذات حس درامي قصصي مبثوثة عبر دواوينه، وبين نص مسرحي مكتمل العناصر، فالأمر يتطلب معالجة فنية جذرية، واشتغالا عميقا.

الأمر الجوهري الذي سقط سهوا من حسابات وزيرة الثقافة، هو ذاته الذي تغافل عنه صناع عرض “حي على بلدنا”، عن تكاسل أو عدم وعي، وهو ببساطة: هل تنتمي هذه المعالجة أساسا إلى فن المسرح

لم يسع صنّاع “حي على بلدنا” إلى إيجاد أبجديات رؤية مسرحية واضحة، بما يعطي إشارة لمشاهدي العرض  تتجلى من الوهلة الأولى في أن المسرح هنا يخلع عباءة “المسرحة”، ويتخلى عن دوره الفني الجمالي، مكتفيا بشحذ الهمم وإعادة إنشاد قصائد فؤاد حداد الحماسية من وضعية الثبات، دون إضافة تذكر سوى ذلك الكولاج الارتجالي لتضفير درره الشعرية، خصوصا الملحّنة والمغناة من قبل.

إن ثراء النص الشعري يكاد يهدره فقر المعالجة الفنية وتهافت العناصر المسرحية من حبكة وصراع وإخراج وديكور وملابس وقدرة على تحريك الشخوص في بناء محكم، والسبب الأساسي في ذلك التعامل السطحي هو غياب المفاهيم المسرحية الأولية عن صنّاع العمل، لا سيما المعدّ أمين حداد، الذي أرجع تقديمه تراث والده على هذا النحو إلى مبررات ليست من الحقل الفني.

اقتصر دور أمين حداد على انتقاء وترتيب عبارات وقصائد والده من صفحات دواوينه الشهيرة دون إضافة أو تعديل للنصوص الأصلية، ليكون هدف العمل “التجميعي” هو إبراز “عَظَمة” فؤاد حداد وإلقاء الضوء على نماذج من شعره يتجلى فيها الحسّ الوطني وطرح القضايا المصيرية وإشاعة قيم الحق والخير والعدالة الاجتماعية.

بدوره، فإن مدير فرقة المسرح القومي يوسف إسماعيل في إعلانه عن تدشين العمل، لا يتناول سوى الجانب الاجتماعي والأخلاقي للعرض، الذي يعيد إلى الساحة فؤاد حداد، بوصفه “مسحراتي الوطن”، الذي يوقظ الضمائر ويهيب بالعزائم لكي تلبي نداء الوطن، فضلا عن خلطة لطيفة من الضحك والتسلية مناوئة لهموم الحياة وضغوطها المتعددة.

صلابة الإنشاد والغناء

من الوهلة الأولى، يُرفع الستار عن منظر يخلو من الديكور، فليس هناك سوى سبعة مقاعد فوق أرضية المسرح، يتبادل الممثلون والمطربون الجلوس عليها تباعا بهدف الاستراحة، في حالة عدم وجود دور لهم، في حين يقف أو يتحرك المشاركون في الحديث، وهو تكنيك بالغ الغرابة، يحوّل العرض إلى وصلات أحادية أو ثنائية لا يربطها خيط محوري.

مع غياب الديكور، تأتي الصلابة في الحديث والإنشاد والغناء، من وضعية الوقوف، فهي لعبة اجترار أشعار فؤاد حداد، على روعتها، بأصوات جهورية، وبترديد غنائي لألحان قديمة أنجزها سيد مكاوي وإبراهيم رجب وعبدالعظيم عويضة ووجيه عزيز لأشعار حداد التي تغنى بها محمد منير ومطربون آخرون، الأمر الذي يلغي وجود إعداد موسيقي خاص بالعرض، باستثناء التوزيع بقيادة المايسترو صابر عبدالستار.

كذلك تأتي الملابس، التي يُفترض أنها من إعداد ناجي شاكر، إذ حضر كل فنان بملابسه الشخصية العصرية المعتادة، المتّسقة مع ذوقه وشخصيته الحقيقية خارج العرض، على الرغم من أن الكثير من أشعار فؤاد حداد تحيل إلى أجواء تاريخية، وتستعرض الملاحم والبطولات المصرية والعربية منذ الفراعنة “يا مصر يا أول كتاب العصور”، مرورا بمعارك صلاح الدين، وصولا إلى الكفاح ضد الاستعمار ونضال الفلسطينيين لتحرير القدس في القرن العشرين “أنا العطشان مليش ميّه إلا فلسطين”.

أما شخوص العرض المسرحي، فهم مجرد رواة وأسماء متعددة متناثرة مستدعاة من التاريخ ومنشدين ومغنين لقصائد فؤاد حداد الشهيرة، التي تتحدث عن قضايا كبرى وبطولات وملاحم مصرية وعربية، كما أنها تمتلئ بالنقد الاجتماعي والسياسي اللاذع الساخر، وتتمسك دائما بالأمل، وتدعو إلى الاصطفاف من أجل نصرة الوطن والنهوض به: “حي على بلدنا.. يا مجاور ألف مدنة.. ورزقك بالحلال”.

عرض غنائي إنشادي يحيي سيرة المسحراتي على المسرح القومي بالقاهرة
عرض غنائي إنشادي يحيي سيرة المسحراتي على المسرح القومي بالقاهرة

من أبرز القصائد التي تداولها العرض، الذي لم يقدم حبكة أو صراعا أو عناصر مسرحية واضحة المعالم، أشعار ديوان “المسحراتي”، و”الأرض بتتكلم عربي”، وتدور المعاني دائما حول تأصيل الهوية وإبراز أعماق الشخصية المصرية وحقيقة الوطن: “أيام في حضنك أنام/ القلب الأبيض هنا/ يا مصر يا أمنا/ واطلع في نور الأذان/ إذا دعا الوالدان/ المدرسة والميدان/ والإنسانية هنا”.

وتتناول بعض القصائد أوضاعا اجتماعية وسياسية بالنقد والثورية والفكاهة، كما في “طلعـت أدبّ نزلـت أدبّ.. وطالع نازل أقـزقـز لب”، و”الاستمارة راكبة حمارة”، التي يتهكم فيها على الروتين والبيروقراطية في المصالح الحكومية، وقصيدته التي يقول فيها “أنا عندي طاقية.. طاقية شقية.. من شقاوتها بقيت طرطور”.

ويتضمن العرض الكثير من القصائد التي غناها مطربون بارزون لفؤاد حداد، ومنها “في كل حي ولد عترة وصبية حنان.. وكلنا جيرة وعشرة وأهل وخلان” التي غناها محمد منير، وهي تدور في إطار شعبي ملحمي، بهدف التفتيش عن الجوهر الإنساني “أصل الحكاية حكايتنا.. نبني الإنسان”.

“حي على بلدنا”، مهارات فردية في الإلقاء والإنشاد والغناء والتوزيع الموسيقي، تستقي خصوبتها وحيويتها من شلالات فؤاد حداد الشعرية التي لا تنفد، لكنها لم تتمكن من الانتظام في مباراة جماعية منضبطة.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *