عليسة ملكة قرطاج’ على خشبة المسرح البريطاني : هالة صلاح الدين

 

المصدر : العرب : نشر محمد سامي موقع الخشبة

إنتاج ملحمي من إخراج البريطانية كيمبرلي سيكيز وتأليف الكاتب الإنكليزي كريستوفر مارلو عن كفاح امرأة لم تتنازل عن أرضها وخانها حبها.

من بين أعظم النساء القائدات في العالم القديم كانت الملكة عليسة ابنة ملك مدينة صور الفينيقية ومؤسِسة مدينة قرطاج التونسية وسيدتها المتوجة. ومدينة قرطاج أو “قَرْتْ حَدَشْتْ” تعني “القرية الحديثة” في اللغة الفينيقية. قامت عليسة، وتُعرَف أيضاً باسم “أليسار”، شامخةً بين مصاف أشجع النساء في التاريخ مثل كليوبترا في مصر وزنوبيا ملكة تدمر والملكة الأسطورية سميراميس التي بنَت حدائق بابل. وحين استوطنت عائلة عليسة ساحل البحر المتوسط، هددت ذريتها قوة الرومان الباطشة.

على مسرح سوان بمدينة ستراتفورد-أبون-آفون البريطانية، تُعرَض مسرحية “عليسة ملكة قرطاج” (1586) في إنتاج ملحمي من إخراج البريطانية كيمبرلي سيكيز وتأليف الكاتب الإنكليزي كريستوفر مارلو (1564-1593). وقصة مارلو عن كفاح امرأة لم تتنازل عن أرضها وخانها حبها نادراً ما يرويها المسرحيون في العصر الحديث. تجلّى حضور نصها الأصلي في العصر الإليزابيثي نموذجاً للاعتداد النسوي بالذات والتخلص الحر من بطريركية المجتمع. وذلك التمكين الذاتي يثير أكثر من سؤال حول رفض الملكة عليسة أن تذهب مملكتها أدراج الرياح أو أن تفلت حتى من قبضتها.

كانت عليسة قد حكمت صور مع أخيها الأصغر إلا أن وفاة أبيها جلبت عليها مطامع أخيها ففرَّت بحراً لينتهي بها الترحال الطويل إلى ساحل شمال أفريقيا في تونس الحالية. وأرسطو يسجل إعجابه بحكومات قرطاج التي ظلت تلح على مارلو وكانت موضع هوس الغرب قبل الشرق قائلاً “إن العديد من مؤسسات قرطاج رائعة. والبرهان على سِموّ بنيتها يكمن في أن الناس العاديين يظلون أوفياء لها”.

قامت بدور عليسة تشيبو تشانج، وهي من أصل أفريقي أسيوي، وقد برعت في فن الإلقاء الخطابي في نص مسكون بالمنمقات الشعرية البليغة تُداخله بعض اللاتينية المرهفة. كما تمكنت من الجمع بين كرامة الملكة ورهافتها الأنثوية. وكانت تشانج قد زارت تونس لتدرس الموقع الأثري بقرطاج وتتعلم تاريخ المدينة الاستثنائية

من السهل فصل الحقائق التاريخية عن الاختلاق الأدبي في هذه المسرحية الكلاسيكية حيث كل الوقائع التاريخية فيما يخص خلفية الملكة وتفانيها سليمة إلا ما تناثر هنا وهناك عن أنباء الآلهة وتحرشاتها السياسية بالدول المجاورة وتدخلاتها في عوالم البشر. وبالتوازي مع ألاعيب الآلهة، ينساب الحوار الشعري بسلاسة لنكتشف أن بين تأمل الهوية الوطنية من جانب والبحث عن سعادة الفرد من جانب آخر مسافةً طويلةً تستعصي على التخطي ولا تتيسر لمن وهبت حياتها لشعبها.

انهيار الحضارة الغربية

قامت بدور عليسة تشيبو تشانج، وهي من أصل أفريقي أسيوي، وقد برعت في فن الإلقاء الخطابي في نص مسكون بالمنمقات الشعرية البليغة تُداخله بعض اللاتينية المرهفة. كما تمكنت من الجمع بين كرامة الملكة ورهافتها الأنثوية. وكانت تشانج قد زارت تونس لتَدرس الموقع الأثري بقرطاج وتتعلم تاريخ المدينة الاستثنائية. وببشرتها السمراء وشعرها الأسود الأفريقي المجعد، تعكس في شخص عليسة مثالاً أبِياً لحدة الشغف الإنساني عند امرأة من شمال أفريقيا تمثِّل الثقافات الأهلية وموروثات الأديان القديمة من خلال أكثر من نافذة.

وعلى الجانب الغربي هناك أنياس، لاجئ من مدينة طروادة قيل إن قَدَره أن يشيد مدينة على مثال طروادة بإيطاليا. وفي مناخ سياسي يقف متشككاً من الغريب ويغلق الحدود أمام اللاجئين، يتقابل الغرب البراغماتي مع الشرق الإجزوتيكي المكلل بالغموض عندما تغرق سفينة أنياس على ساحل قرطاج وترحب عليسة بالمنفيّ الذي يناجي ذاته طويلاً ليقص حكاية سقوط طروادة باعتبارها مؤشراً على انهيار الحضارة الغربية متفجعاً على “عذارى يمتن على الخوازيق؛ ورجال ونساء تطالهم التشوهات؛ وملك طروادة يُذبح كالشاه ويشنق جسده وتنقطع يداه؛ ورضعٌ صغار يسبحون في دماء آبائهم”.

تراجيديا فوضوية

يقوم الممثل المصري وليد القاضي بدور سيرجيستوس صديق أنياس في الميثولوجيا الرومانية-الإغريقية، وكان قائداً لخمسة جيوش مجتمعة. وعلى الرغم من وجود الصديق، يستبد الرعب بأم أنياس، الإلهة فينوس، خوفاً على حياة ابنها. ولتحميه تعبث مع الفانين وتوظف كيوبيد ليسمم الملكة عليسة بسهمه فتهيم عشقاً بأنياس. كانت عليسة قد أبت الزواج، رافضة أن يحكم أرضها ملكٌ بيد أن سهم الحب أعتى من الإرادة الإنسانية. يبادلها أنياس حباً بحب إلا أن القدر يحتم ألا يظل القائد الباسل حبيس قرطاج، فعليه الالتزام بواجبه السياسي وتشييد مدينة روما.

 

انبني العرض على مجموعة من المفاهيم النسوية لتقديم امرأة فريدة بين النساء اللواتي صنعن التاريخ

وفي سبره للسلوك الإنساني وإلحاح الأجندات السياسية يبرز مارلو جنسانية الرجل بوصفها سياسية دكتاتورية بقدر ما هي بربرية لا كابح لها تسودها الفوضوية. تشتعل الملكة غضباً وتتلوّى على رمال رمادية ترمز إلى صحراء شمال أفريقيا أو إلى رفات خلفت عن نيران هائلة التهمت الملكة التهاماً.

كل ذلك يمضي في نسق سريع ومارلو يدين رجلاً يهجر امرأة أنقذت حياته وفتحت، وهي حامية القانون والعدالة، وطنها للترحيب به. وفي النهاية يتصاعد صوت منعزل يشي بالألم وترفض عليسة أن تصير مغوية تلهي المحارب عن واجبه. وهكذا تتخذ الملكة موقفاً سوف يغير العالم والتاريخ لمدة ألف عام تاليين في مشهد نهائي مخيف تتحجر فيه جثتها محروقة ومتفحمة على ألحان تتناغم مع ثقافات جنوب البحر المتوسط.

يقول مارلو إن النساء في عصر عليسة لم يكتبن السيمفونيات ولم يشيدن المدن غير أن عليسة المقاتلة التي هددت عرش الرومان تظل قطعة من الأرض التونسية وأهلها. امرأة ذات أسماء عدة وفقاً للحضارة التي أتت على ذكرها. هي في الحضارة الغريبة “ديدو” والكلمة فينيقية تعني “الرحالة”، وقد كتب الشاعر الروماني فيرجل عن ذكائها ودهائها في الإلياذة، وفي العصر الحديث قام تمثالها في متحف اللوفر بباريس.

وقد انبنى العرض على مجموعة من المفاهيم النسوية في تقديمه لامرأة صلبة لها فرادة بين نساء عصرها، تضع مبادئ التضحية والواجب فوق كل اعتبار وتهيمن على مقاليد الأمور في مملكتها التونسية في أصداء تستحضر قائدة أخرى من قائدات التاريخ، وهي كليوبترا مصر. الحق أن إمبراطورية عليسة التجارية الواسعة التي مكنتها من السيطرة على البحر المتوسط علَّمت الرومان الخوف وجسَّدت تهديداً جلياً لمستقبل الغرب بأكمله. لذا كان لا بد من تدميرها ووضع حد لطموحها التوسعي، بل ومحوها من صفحة التاريخ بالكامل.

ومخرجة العرض تهجو الآلهة بلمسات كوميدية بينما تتعامل مع خراب العقول ووجع القلوب بجدية شديدة. ومن هذه التراجيديا يشعّ الجانب العاطفي لواحدة من أبرز القائدات عبر التاريخ. وعلى عكس مسرحية شكسبير “أنطونيو وكليوبترا”، وجد مارلو الملكة ذات النزعة الصوفية هي وحدها المستحقة بالاحتفاظ بعنوان المسرحية، وذاتها وحيرتها في سقطاتها ومباهجها كانت موضوعها.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *