رائعة سترافنسكي ‘حكاية الجندي’ في ثوب جديد

ابو بكر العيادي – العرب 

من العروض الممتعة هذا الصيف “حكاية الجندي”، وهي في الأصل ميمودراما اشترك في تأليفها الكاتب السويسري راموز والموسيقار الروسي سترافنسكي عام 1917، وحولها المخرج ستيفان دروييه إلى عمل مسرحي موسيقي مذهل عرض مؤخرا في مسرح “الجيب” بباريس، ونال إعجاب النقاد والمتفرجين.

“حكاية الجندي” هي في الأصل ميمودراما، وهي نوع من الميلودراما يقع الجمع فيها بين الإيماء والموسيقى، صاغ موسيقاها المؤلف الموسيقي الروسي الشهير إيغور سترافنسكي (1882-1971) عام 1917 عندما لجأ إلى سويسرا بعد قيام الثورة البلشفية، وعهد بتأليف كلماتها للكاتب السويسري شارل فردينان راموز (1878-1947)، وإن تمّ التوزيع الموسيقي بعدها بعامين عقب لجوئه إلى بيت الفنان ألبير موري في مدينة لنس الفرنسية.

هذا العمل -الذي عقب أعمال باليه ناجحة كـ”الطير الناري” و”بتروشكا” و”تقديس الربيع″، وسبق مرحلته الكلاسيكية الجديدة، ومؤلفاته المتميزة كـ”حفل الزفاف”، و”الملك أوديب”، و”قبلة الجنية” و”سيمفونية المزامير- استقاه من الموروث الشفوي الروسي، وإن بدا التأثر جليا بفاوست، أهم أبطال الحكايات الشعبية الألمانية، وفاوست هذا هو خيميائي يدعى يوهان جورج فاوست، لم يكن راضيا عن حياته رغم ما حققه من نجاح، فأبرم صفقة مع الشيطان سلمه بمقتضاها روحه مقابل حصوله على المعرفة المطلقة وكافة ملذات الدنيا.

هنا أيضا يبيع جندي بائس روحه للشيطان، ممثلة في كمان، مقابل كتاب يسمح له بقراءة الغيب، وبعد أن فسّر للشيطان كيف يستعمل الكمان، عاد الجندي إلى قريته، ولكن بدل أن يقيم مع الشيطان أياما ثلاثة، دامت الإقامة ثلاثة أعوام، ولم يعد أحد في القرية يعرفه، حتى أمه وخطيبته التي تزوجت رجلا غيره.

استعمل الجندي كتابه السحري كي يصبح واسع الثراء، ولكن ثروته لم تجلب له السعادة، فراح يراهن الشيطان في لعبة قمار: ماله مقابل استرجاع الكمان، فكسب الشيطان الرهان، ولكن سكره بالمغانم أفقده الكمان، فأتيحت بذلك فرصة أمام الجندي كي يعالج الأميرة ويتزوجها لا سيما أن أباها الملك وعد بتزويجها لمن يشفيها من علتها، وبما أنه لم يعد يَقنع بشيء، حتى السعادة، أقنع زوجته بمغادرة المملكة برفقته، رغم تحذير الشيطان، فكان الجحيم نهايته. وبذلك انتصر الشيطان.

في الحكاية يبدو الجندي ضحية، والشيطان رمزا لجيش العدو، والكتاب الذي يرى المستقبل رمزا للمادية والكسب الجشع

هذا العمل غالبا ما جرى تقديمه في صيغة كونشيرتو، ومن النادر أن قدّم في صيغة “مسرح موسيقي”، رغم أنه لم يكن يحتوي في البداية سوى على راو وأميرة راقصة إضافة إلى الجندي والشيطان، وكان غرض راموز وسترافنسكي آنذاك خلق مسرح متنقل يجوب الأرياف خلال الحرب العالمية الأولى للترويح عن الأنفس المكلومة.

وقد اختار المخرج ستيفان دروييه أن يقدم قراءة جديدة لهذا العمل، من خلال التخلي عن الإيماء، والاكتفاء بالإشارة الموحية، لا سيما أن مسرح الجيب صغير، وجمهوره قريب من الخشبة، وإنطاق الشخوص ولو بمقدار، وتجسيد الراوي في هيئة مؤلف جلس يكتب “حكاية الجندي” ويشهد تمثيلها في الوقت نفسه، فتجري الأحداث أمام المتفرج بشكل مباشر، وإن كان أغلب ما يكتبه، وينطق به على الخشبة، قد ورد في الأصل على شكل ممسرحيات (أي التوجيهات التي يكتبها المؤلف ليتقيد بها المخرج والممثلون)، لا سيما أن سترافنسكي كان قد صرّح أن “حكاية الجندي” هي عمله الركحي الوحيد الذي يحمل إيحاء معاصرا.

تولى دروييه الإخراج، بعد أن تهيب سنين طويلة الإقبال على هذا الأثر الفني الشهير، وعهد للفنان جان لوك تانغو بإدارة فرقة أوستيناتو، تلك الفرقة التي شكل دخولها لحظة ساحرة، قبل وقوفها أمام لوحة فنية للورانس بوست في عمق الخشبة، في أزياء عسكرية يعود عهدها إلى الحرب العالمية الأولى، لتؤدي أنغاما استوحاها سترافنسكي من الموسيقى التي بدأت تظهر في عصره كالجاز والراغتايم بوجه خاص، على آلات الكمان، والكنترباس، والزَّمْخر، والشِّياع، والترمبون، والكلارينات، وآلة النقر والإيقاع، لتساهم مجتمعة أو منفردة في التعبير عن لحظات العنف والهدوء، الصخب والسكينة، مثلما ساهمت الأميرة/الراقصة في تكامل عناصر هذا العمل الممتع.

وكان من حرص الفريق كله على حسن الأداء أن توزع العازفون إلى فرقتين، تولى لويك أوليفييه تسييرهما بالتناوب، فكانت النتيجة فاتنة، أخاذة، في لحظة امتزج فيها التمثيل بالنغم الراقي.

في هذه الحكاية يبدو الجندي ضحية، والشيطان رمزا لجيش العدو، والكتاب الذي يضمن لمن يحوزه التنبؤ بالمستقبل وتحقيق الثراء رمزا للمادية والكسب الجشع، ولكننا يمكن أن نتأوّلها من زاوية أخرى في هذا العصر الذي يشهد تطورا علميا مذهلا، وهو أن الكتاب السحري هنا، كرمز للمعرفة، يمكن أن يقود المرء إلى الدمار، فبفضله استطاع الجندي الاطلاع على المستقبل، واستطاع أيضا كسب مال وفير، ولكن ذلك المال سيكون سببا في ضياعه.

يقول الجندي “السعادة هي كل ألوان السعادة، وإن كانت مزدوجة فكأنها لم توجد قطّ”، ويقول في مقام آخر “أملك كل شيء، كل شيء ولا أملك أيّ شيء”، وفي ذلك كناية عن الجشع المفرط الذي يستبد بكل من لا يقنع، فيظل يَنشد المزيد مهما راكم من خيرات، وكلما حاز شيئا أحس بأن ثمة شيئا لا يزال يعوزه.

——————————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *