تقنية المنجز المسرحي الحديث .. جمالية البناء وتقنية التقديم

د. صفاء الدين أحمد فاضل – مجلة فكر  – مجلة الفنون المسرحية 

للنهوض أسرار وللهبوط أسباب ولكل فن نسيج فكري مأخوذ من فكرة الحياة وتفاعل الإنسان بما حوله، فالحياة ومطالبها تصنع مصانع عدة معتمدة على قاعدة فكرية تنطلق منها ثقافات متلونة ترسم لنا لوحة شاملة معرفية يكون بطلها الإنسان وهو يجول بعالم بيئته ومجتمعه.

يستخدم المسرح الحديث آليات الخطاب المتقدمة الحداثوية لنشر الفكر لدى طبقات المجتمع فيقيم علاقات بين العقل والنقل من أجل المحافظة على الثقافة والفكر أساسها الحوار المعتمد على تقنيات التقديم والعرض والنقد الحضاري الدال على أخلاقيات التفكير الابداعي وإمكانيات التوصيل المعرفي العصري، الذي يصور تفاعل العصر مع الفرد بمسرح أصبح جزءًا من حياة الفرد بصفته وسيلة إعلامية هادفة إلى تحقيق الوعي المعرفي لطبقات المجتمع وهذه الوسيلة الاعلامية تتم على ثلاثة أوجه هي الوجه المرئي والمسموع فضلاً عن النص المكتوب فهذا العمل تبدو فيه المهارة الحرفية واضحة المعالم لتزيد من تلقي الجمهور وتفاعلهم ولا يخفى على القارئ أن المسرح الحديث تقدم تقدمًا ملحوظًا إثر دخول التقنيات الحديثة وإقامة العلاقات المتشابكة في مضمونه، مراجع عدة تناولت حضور المسرح الحداثوي من تلك الدراسات دراسة الأستاذ عبد الفتاح قلعجي في دراسته (المسرح الحديث الخطاب المعرفي وجماليات التشكيل) برغم الانتقادات التي وجهت إلى هذه الدراسة إلا إنها تعد خطوة أكثر تقدمًا في مجال الانفتاح المسرحي الحديث وتسليط الضوء على قواعده الأكثر حضورًا…. فضلاً عن دراسة د. باسم الأعسم (مقاربات في الخطاب المسرحي) الذي ركز فيها على القيم الجمالية المنبعثة من الأنساق البصرية والسمعية والحركية التي يعتمد عليها الشكل المسرحي.

نواحي المسرح وجمالياته كثيرة وآفاقه رحبة وواسعة تستحوذ الأفكار وتبادلها على قيمة المسرح ومن ثم هي قيمة انسانية منتجة ….

هذه القيمة ترتبط بالوظيفة التداولية التي تحدد استعمال النص وآليات توصيلية على وفق لغته المشروعة في المسرح والتي تبني علاقات مركبة داخل المنجز اللغوي أو السياق المقدم على المنصة من تلاحم الوحدات الصغيرة وتشابك مكوناتها اللسانية لتصبح علامة ثقافية واضحة تنطلق من أفعال خارجة من شفاه الممثلين إذ المشاركة الجماعية لإنتاج دلالة معينة لموضوع معين أي علاقة الحضور المرئي. 

الكل يعلم إن المسرح ومشاهديه لديهم مستويات عدة وقدرات متفاوتة للفهم أو بمعنى قدرات الاستيعاب الحدثي فلا بد من الكاتب ان يجسم الصور المشهدية التي تسد الفجوة أو مسافة الترك بين المتلقي والممثل وهي عملية استدعاء مشاهد تطعيمية (ملء الفراغات) ليحقق التفاعل بين الطرفين فلو عدنا إلى الكاتب الإغريقي  ارستوفانيس (444 ق.م – 380 ق.م) لوجدنا مسرحية  (السُّحُب) من أروع النماذج الكوميدية التي تستهوي فكر القارئ من خلال رسم المشاهد المتتالية الواحدة تلو الأخرى بروح كوميدية لا تجد فراغات نصية أو حركية داخلها وقدمت لطبقات المجتمع الاثني آنذاك وهو يتحدث عن شخصية سقراط وتصرفاته …. 

وارستوفانس برغم قدمه وبداياته إلا إنها الشرارة الأولى التي وهجت الروح المسرحية بالآداب الغربية فبنائه الهندسي وأضح وهو يبني أحداثها وصراع شخصياته بحركة ديناميكية متكاملة من الصعب حذف أي مشهد أو حركة من فصول المسرحية إثر التناغم والانسجام والتكامل النصي في أثنائها كما حافظ على الائتلاف المشهدي والتكامل الحركي، تتابع جملي بحركة استعراضية على طول وقت المسرحية زادت من التفاعل مع الجمهور وجمالية البناء لم تنته لهذه النقطة فخصائص البناء المسرحي متعددة وعلى الكاتب أن يحافظ على جوانب المسرح الداخلية والخارجية ويحافظ على جماليات الصوت والصدى والحوار الذي يثير الانفعال التقبلي لدى الجمهور فضلاً عن أسلوب  حداثوي هو محمولات إضافية تطعم النص وهنا لعبة المسرحية.

مسرحيات عدة أجادت بتلقين شخصياتها الأدوار المهارية الحركية الجديدة لتغني آليات المسرح بفن يتناسب مع روح العصر… ومجال المسرح الحداثوي ليس نفسيًا وإنما جسدي وتشكيلي ويرى انثونان ارستو الذي أسس مسرح الفظاظة عام 1932 أن المسرحية تهز بقوة راحة الحواس، تحرر اللاشعور المضغوط وتدفع إلى نوع من الثورة المضمرة، وهذا يحتاج إلى تصرف ضد النص لإثارة تلك الحواس التي توجد الفضاء المسرحي المناسب وهي تروي الأحداث في مسرحية الكلام ثم المشهد الدرامي المؤثر وهو يتطور رويدًا رويدًا يرافقه تغيرات على مستوى الشكل وحسب طبيعة الكلام المتأني الذي صنعته التجربة الجسدية، فالكتابة المسرحية أو العمل المسرحي هو عبارة عن عملية بناء وهندسة وأيضًا عملية توزيع موسيقى وخاصة الشكل الدرامي المستفيد من اليات تقنية التجزئة كالأماكن المغلقة (البيت) (المكتب) والأماكن المفتوحة (الشارع ) (الحديقة ).

الكاتب الحديث يعتمد تقنيات متطورة لمسرحه ويتذوق النصوص ويوفر الشروحات المناسبة النصية فيصبح النص لوحات منقسمة لميادين مختلفة تعتمد على لغة ولهجات مختلفة حسب المواقف التي يحتسبها العرض المسرحي وأهمها اللقطات المأخوذة من واقع الحياة وجوانبها الإنسانية ويبدو لي الكتابة واحدة في العمل الأدبي بأجناسه المتعددة إذ يجب أن يرتبط النص بعضه ببعض كنسيج متداخل واحد وهو يسرد الأحداث ويضفى عليها بعدًا وثائقيًّا نتج من سيناريو متقن وأعمال مسرحية عالمية أثبتت وجودها الحداثوي وهي تمثل مسرحياتها على خشبات عالمية.

الحداثة المسرحية أو المسرح الحداثوي ارتبط بعلم النفس وميادينه الواسعة فمثلاً موضوع التصالح مع النفس أو مع العالم أو مع الأم والأب أو مع هوية الفرد نفسه أو التصالح مع الزمان أو المكان ..ألخ والمونولوج الداخلي الذي يتحدث على لسان الشخصية نقل عالم باطني إلى عالم خارجي تخرج فيه أفكار الشخصية وأحلامها وآمالها وتطلعاتها وكل ما يجيش في داخلها تطعمها الجمل الشعرية الأكثر تعاطفًا مع الحالة النفسية، إذ جوانب علم النفس والعلوم الأخرى ساهمت بهذا التحديث لتقنيات المسرح، فالمسرح في الختام ما هو إلا تحويل المكتوب إلى حركة سينمائية مشهدية وحداثة العصر تطلبت إبداع خطوات متقدمة أكثر مما احتفظ به أصحاب  المسرح التقليدي.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *