باريس ترتدي أقنعة الخريف / عمار المأمون

نشر / محمد سامي موقع الخشبة

حضور عربي متواضع في مهرجان الخريف المسرحي في العاصمة الفرنسية باريس.

تسعى هذه النسخة من مهرجان الخريف إلى تجاوز الحدود والتصنيفات السياسية، لتكون مسارح باريس، مساحةً لاكتشاف الغريب وغير المألوف مما قدمته الساحة المسرحيّة العالميّة، حسب ما قاله إيمانويل ديمارسي موتا المدير العام للمهرجان، الذي يستقبل هذا العام أكثر من ستين فناناً، في أربعة وخمسين مكاناً، ستكون فضاءات للعروض المسرحيّة والراقصة، إلى جانب فنون الأداء والمعارض التشكيليّة.

يحتفي المهرجان في هذا العام بشخصيتين من الساحة الفنية العالميّة، الأولى، هي الراقصة ومصممة الرقصات البلجيكية أنا تيريسيا دي كيرسينكر، التي يحوي المهرجان أكثر من أحد عشر عرضاً من تصميمها، أشهرها أداء “مشي بطيء”، وضمنه سيقوم الراقصون مع كل من يحب المشاركة من سكان باريس، بالمشي في أنحاء المدينة ببطء، بصورة أدق، بسرعة خمسة أمتار في الساعة، في محاولة لتأمل السرعة التي تمشي بها المدينة، وطبيعة القوانين والأعراف التي تضبط حركة وتدفق الأفراد في الفضاء العام.

الشخصية الثانيّة التي يحتفي بها المهرجان هي المؤلف الموسيقي الفرنسي- الكندي كلود فيفير، الذي قتل في شقته عام 1983 بعمر 34 عاماً، على يد بائع هوى شاب، إذ يقيم المهرجان خمس حفلات موسيقية لأشهر أعماله، التي لا يتجاوز عددها السبعة، مع ذلك تعتبر من أكثر المقطوعات الموسيقيّة تأثيراً في القرن العشرين، وخصوصاً مقطوعة “هل تؤمن بخلود الروح؟”، والتي مات قبل إكمالها، حيث وجدت الشرطة مخطوطها في شقته يوم مقتله.

يحضر مسرح الشرق الأقصى بصورة مميزة في نسخة هذا العام من المهرجان، وخصوصا العروض اليابانيّة، إذ تستقبل باريس المخرج توشيكي أوكادا، الذي يعرض مسرحيتين من تأليفه وإخراجه هما “خمسة أيام في أذار” و”بورتريه للشغف”، ويذكر أن أوكادا اشتهر على الساحة العالمية بتناوله القضايا المعاصرة وعلاقة الغرب مع اليابان، وتأثير التغيرات الاقتصاديّة على الشباب الياباني، فشخصياته تتحدث بصورة متقطعة وجمل غير مترابطة، وتحيل إلى ذاتها وكأنها تحكي حكاياتها للجمهور ولنفسها، كما أن أداء الشخصيات لا ينتمي للشكل التقليدي المرتبط بالنظريات الغربيّة، إذ يرتجل الممثلون حركاتهم، ويبتعدون عن الانتظام والتنسيق في حركة جسدهم.

كما يحضر في ذات السياق عرضٌ لتاكوري فوجيتيا باسم “أرموا الكتب، أخرجوا إلى الشوارع”، المستوحى من فيلم كتبه الفنان والشاعر والكاتب شوجي تيرايما، والذي تتناول المسرحيّة حياته وتدمج بين الوثائق الشخصيّة والأحداث المتخيّلة.

يستضيف المهرجان أيضاً المسرح الياباني التقليدي، المعروف باسم الكاوبوكي، إذ تقدم فرقة شوشيكو، ثلاثة عروض كلاسيكيّة تحكي القصص الدينية التقليديّة، فالعرض الأول يعود إلى نهاية القرن السابع عشر، والثاني إلى نهايات القرن التاسع عشر، والمميز أن في هذه العروض يلعب الممثل نفس الدور دائماً، إذ يؤدي دور الرجل ناكامورا شيدو الثاني، ودور الأنثى ناكامورا شيشينوسكو الثاني، كما نشاهد أيضاً عرضاً لهيروشي سيغوموتو، والذي يُصنف بأنه “كيوجين”، وهو الشكل الكوميدي لمسرح النو التقليدي في اليابان.

تتميز العروض السابقة بدقة حركات الممثلين، وانضباطهم العاليّ، خصوصاً أنهم يرتدون أقنعة وأزياء مميزة، تشكل البعد الجمالي والرمزي للمسرح الياباني، الذي يختزن داخله تقاليد وحكايات مختلفة كلياً عن المسرح الغربي.

الممثل سيد الخشبة

 تقاليد المسرح الياباني في باريس
 تقاليد المسرح الياباني في باريس

يستقبل المهرجان أيضاً عددا من عروض المونودراما، كـ”حرارة” لليتيسا دوك، والذي نرى المخرجة والممثلة الفرنسية فيه وحيدة، ونصف عارية مع حصان يشاركها خشبة العرض، تتحدث معه عن مشكلات العصر وما مرت به فرنسا، لتقع بحبه بعدها، في علاقة تتجاوز التصنيفات التقليدية.

كذلك يقدم الفنان الفرنسي جوليان غوسلينغ عرضاً بعنوان “الأب”، المقتبس عن نص لستيفان شايو، بعنوان “رجل غير واثق”، والذي يحكي قصة فلاح يستعيد ذكرياته وتاريخ حياته، في محاولة لاستكشاف تاريخ الحزن الذاتي، وكيف يصقل هذا الحزن حياة الفرد، إلا أن أكثر هذه العروض إثارة للاهتمام، هو ذاك الذي تقدمه فرقة “تسلية إجبارية” بعنوان “الأعمال الكاملة: شكسبير على الطاولة”، والتي يخرجها البريطاني تيم إيتشل، بوصفها جزءا من تجاربه الفنية لفهم طبيعة النص المسرحيّ، إذ نرى مؤدياً يقوم بسرد حكاية إحدى مسرحيات شكسبير، وهو جالس على طاولة يحرك عليها أشياء يوميّة، كأقلام وألوان وعبوات فارغة، وكأنها دمى يكسبها فعل “السرد” معناها، ليتحول شكسبير إلى ما يشبه الحكاية الشعبية أو قصة ما قبل النوم، التي يستمع لها الفرد بصورة مبسطة تحوي عناصر الحبكة الرئيسيّة.

اقتباس ونصوص كلاسيكية

لا تغيب عن المهرجان عروض تستعيد وتتبنى أشهر النصوص الأدبيّة، إذ يقام في مسرح الأوديون عرضا بعنوان “المحاكمة” والذي تقتبس فيه المخرجة البولنديّة كريستيانا لوبا رواية كافكا الشهيرة التي تحمل ذات الاسم، فالعرض الممتد على طول أربع ساعات ونصف، يستعيد حكاية المسرحيّة ذاتها التي واجهت الكثير من المشكلات، وتوقف إنتاجها لفترة بسبب الأحداث السياسية التي شهدتها بولندا، ووصول حزب محافظ للحكم تدخل في الصناعة المسرحيّة، لتكون المحاكمة كما نص كافكا غير مكتملة، وظهرت إلى النور إثر مساعدة المقربين من المخرجة لإتمام الإنتاج، كنص كافكا الذي خالفت خطيبته وصديقه وصيته ولم يقوما بإحراق مخطوط الرواية، كما يستضيف المسرح ذاته مسرحية “الشياطين” من إخراج الفرنسي سيلفان كروزيفولت، المقتبسة من رواية فيودور ديستويفسكي و التي تحمل ذات الاسم، ويحاول عبرها المخرج أن يطرح التساؤلات المرتبطة بالوجود، والعلاقة مع الإله وأضداده في مجتمعاتنا المعاصرة، ودور الفنان ضمن هذه التناقضات.

ولادة التراجيديا

شكسبير على الطاولة
شكسبير على الطاولة

يقدم أيضاً عالم الاجتماع والكاتب المسرحي والممثل السويسري ميلو راو، عرضاً بعنوان “استعادة- حكايات المسرح”، وفيه يبحث عن جذور التراجيديا وكيفية تكونها كمفهوم، ويَصف راو هذا العرض بأنه بحث أدائي على المدى الطويل يتعلق بأقدم أشكال الفنون التي عرفتها البشريّة، كما أنه يبني العرض بوصفه أشبه بلعبة تحقيق جنائيّ، كون أغلب التراجيديات تحوي جرائم قتل أو جريمة تكون المحرك الرئيسي للمسرحيّة، ذات الشيء نراه في عرض لمكسيم كورفيرز، بعنوان “مولد التراجيديّا”، والذي يستند إلى نص الفُرس لإسخيلوس، فالعرض محاولة لفهم المعاني التي تشكل فن التراجيديا، هل هي بصرية أم جماليّة أم شعريّة، وكيف يتدخل الممثل وذاكرته في بناء الفعل التراجيديّ، إلى جانب طرحه تساؤلات مرتبطة بأوهام الاستعراض والمسرحة بوصفها لا تشكّل جوهر البناء التراجيديّ.

الحضور العربي في هذا المهرجان متواضع، إذ هناك عرض “ماما” لأحمد العطار، والذي يحكي قصة عائلة برجوازية في القاهرة، والصراعات بين أم وزوجة ابنها، والابن ضحية هذه الصراعات، كما يحضر عرض فن الأداء “متاحف اللوفر أو/و رفس الموتى” للفنان اللبناني وليد رعد، والذي يقود المشاهدين في معرضه الفنّي، الذي يتداخل فيه الواقعي والمتخيّل، في رحلة تمتد من بلجيكا إلى لوفر أبوظبي مروراً بنيويورك، وكأن الفنان في رحلة بحث ذاتيّة يتداخل فيها التاريخ مع تجربته الشخصية والمنتج الفنّي.

يترقب جمهور المهرجان عرضين مثيرين للاهتمام، الأول من إخراج روبيرت لوبيغ وفرقته أيكس ماشينا، بالتعاون مع مسرح الشمس، بعنوان “كاناتا”، والذي يعتبر العرض الأول لمسرح الشمس منذ 45 عاما لا تديره أو تخرجه أريان منوشكين، إذ يقدم لوبيغ على طوال 4 ساعات حكاية بلاده كندا طوال 200 عام، مستعرضاً تاريخ الصراعات بين “المستعمرين البيض” و”السكان الأصليين”.

أما العرض الثاني فهو للمخرج البرتغالي تياغو رودريغز، بعنوان “عن ظهر قلب” والذي يحاول عبره إعادة النظر في مفهوم النص المسرحي وأهمية حفظه، إذ يدعو 10 من الجمهور إلى اعتلاء الخشبة وحفظ عشر سونتات لشكسبير، إلا أنّ تغيّر الجمهور/ المؤدّين كل عرض، يهدد تماسك النص، ليتحول العرض إلى معركة ضد النسيان، ففي كل مرة يحفظ أحدهم مقطوعة تتغير علاقته معها، وتتغير طبيعة العرض، الذي يتكون في كل مرة بصورة مختلفة.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *