المسرح والنهضة – أنور محمد

 

لقد كتبنا نصوصًا، وقدَّمنا عروضًا، على مدار أكثر من قرن ونصف القرن، لكنَّنا إلى الآن لم نكتب مسرحيتنا العربية بخصوصيتها المحلية. مع هذا، فالمسرح العربي هو من أكثر الفنون التي حملت الفكر وانتقلت به إلى ما يتخطى الدولة الاستبدادية، لأنَّه لم يتحوَّل إلى (لاهوت) للسلطات. لقد امتلأ بالتراجيديا، وبدا الكاتب، وكذا المُخرج المسرحي العربي، مشغولًا بالانتصار للعقل ليعي ذاته/ ليحقَّق وعي الذات.

عربيًا، لو قرأنا مسرحنا فسنجد بويضات، نواة نهضتنا ما إن تتشكَّل حتى يتم إجهاضها؛ إن بأيدي السلطة العربية، أو بأيدي عملائها، أو بأيدي الاستعمار مباشرة. وهذا يعني أنَّ المسرح العربي يتفانى في خدمة مشروعه النهضوي، فلا يُعزل أو تُدمَّر نوى المقاومة في الفكر – فكره، وهي نواة صلبة، بسبب عصبيتها، وهي أكثر قوَّةً من النواة الأيديولوجية، لأنَّها من منشأ، من وعي قبلي/ مسرحي، له خصوصياته الإنسانية، كونه وعيًا يحمل أفكارًا نبيلة لا خسيسة.

من تحديات الراهن، أنَّ المسرحي العربي لا يقيم مسرحه في النصوص والعروض على التوازن الوجودي بين (نحن) و (الآخر). فهو في كثير من العروض يَغرق في قضايا محلية بمباشرة سياسية دعاوية، حتى لو كان النص عن المسرح اليوناني أو عن شكسبير أو بريخت أو غيرهم، ذلك بعيدًا عن أخلاقية المناقشة والبرهنة والمسؤولية، مع أنَّ فعل (القول) على المسرح هو قولٌ ينجز فعلًا من فكر مجرَّد وعملي، ليضفي روحانية تمنح، تعطي مكانها للصدق- صدق الخطاب المسرحي، لأنَّه يصنع نهضة، يصنع حضارة. وبالتالي يُسائلها، يُحاسبها بصفته شريكها، ولأنَّه في عصر العولمة صار المسرح يُشكِّل ترياقًا للحضارة. ففيما هو ثابت في مواقفه المبدئية الإنسانية، نرى أنَّ حضارة العولمة التكنولوجية- البيروقراطية، تقوم بدور الصديق ظاهريًا، فيما هي تلعب دور العدو الضاري باطنيًا.

وهنا نسأل المسرحيين العرب: ماذا فعلتم، أو ماذا حقَّقت العروض المسرحية العربية سنويًا وعقديًا من نمو ثقافي/ فكري، لدى المتفرِّج كيفًا وكمًّا؟ مع تقديرنا أنَّ مثل هذا النمو/ التطور المسرحي، هو نمو صيرورة مصدومة لا متّصلة، لأنَّها تتعرَّض لانقطاعات، كما تقطع مراحلها، تُنجز سيرورتها وتنمو بقفزات ورجعات. وهنا نذكِّر أنَّ معظم السياسات المسرحية هي سياسات مرتجلة، وكل ما تُراكمه من أفعالٍ، على الرغم من الأموال الهائلة التي تصرف، وخاصة في دول الخليج العربي، لا يمكن في مثل هذا (النمو) المتعثِّر أن تحقِّق الانفجار المسرحي أو (الأولمب المسرحي)، على الرغم من وجود كمٍّ نوعي من العقول المسرحية العربية المبدعة؛ إن في عمقنا المسرحي أو من معاصرينا.

المسرحي العربي في بعض ما كتبه (مبدعوه) هو بحثٌ عقلي للعثور، ومن ثمَّ لإبداع الذات التاريخية والسياسية. هو مفكِّر جماعي، وربَّما تجاوز في قراءاته/ تحليلاته، المشروع الفلسفي العربي الذي قام على (المقولات الفكرية) لفلاسفة ومفكِّرين غربيين، وهي مقولات لم تتخلَّص من (تعاليها) على عقلنا- علينا. فيما كان المسرح يفكِّك، يُركِّب، ينتقد، يُحذِّر من خطر تفكُّك الأمة العربية، بسيف المذهبية والطائفية والعرقية وربَّما (القبلية)، من مبدأ استعماري قديم (فرِّق تسُدْ). أكثر من ذلك: إذا كانت الفلسفة العربية، وهي ملخصات لما أنتجه الفكر الفلسفي الغربي قد أغرقتنا باللاهوت وضد الفلسفة واللاهوت، فإنَّ المسرح تعداها وتجاوزها، فترى على خشبته: المؤمن التقليدي كما العقلاني واللاأدري والملحد؛ يتعايشون ويتحاورون و.. يقتتلون ولكن دفاعًا عن كرامة عقل الإنسان/ كرامة الإنسان. في المسرح لا تحالفات سياسية، بل ذاتٌ جماعية، قوى واقعية مادية أو اجتماعية لا طبقية، مفكِّر جماعي، وعقلانية حركتها جدلية، تُخرج (الحلَّ) من الصراع حتى الحياة لا الموت. لأنَّ المسرحي صاحب عقل عملي بخلاف الفلسفي، العقل الفلسفي، لأنَّ عقله يمارس حياته الاجتماعية ليُنتج ما هو إنساني، يُنتج الإنساني.

بمن نتحدىَّ الراهن؟ بالمسرحي الذي يؤمن بالعلم، وبالبحث العلمي، وتراه قاعدًا يتفرَّج كيف يُداسُ عقلنا وعِلْمُنا ببسطارات العولمة. أم بمسرحي يتجاهل العلم، وقد يُعاديه، باعتباره سبب كل هذا الدمار الذي لحق بالبشرية؟ أم بتحديِّ الراهن الذي نعيشه، ويحكمه سياسيون واقتصاديون ومسرحيون/ مثقفون ينعمون بالجهل المستنير. وفوق ذلك يفكِّرون أنَّهم يصنعون نهضتنا العقلية؟ مع أنَّهم لو اشتغلوا مُنجمين لكان أفضل لهم. وربَّما لعبوا دورًا في حياة الناس، باعتبار أنَّ المنجمين يروِّجون لأسطورة السعادة الفردية. ويستبعدون الكوارث والمصائب. بل كعادتهم يغذُّون الأمل، يدفعون الناس للتسليم بـ (القدر). وبذا يتجاوز المُنجِّمُ المسرحيَّ، إذ إنَّه يشكِّل الوعي الجماهيري، لاعبًا دور العلم/ العالِم، ليغزو الذات، ليغزو نفوس البشر، فيؤمنون بسحره، ويصير (لا علمه) علمًا!!

إنَّ المسرح والنهضة كأنَّهما قطبية ثنائية، ومن جذرٍ فكري يجعلهما كائنين متماثلين متكاملين. ولكن هنا يجب أن نميِّز بين مسرحيٍّ يُقيم فلسفته على العفَّة والانسجام مع الواقع: مثالية أفلاطونية. وبمسرحيٍّ يُقيم فلسفته على الشكِّ والاختلاف والتناقض الذي نحياه، بل بالذهاب نحو العصيان الفلسفي/ العصيان المسرحي. ما يعني أنَّ هناك معركة طويلة مع الاستبداد الذي يكرِّس التخلف، وهي ليست معركة طبقية أو عرقية. وهذه المعركة بحاجة إلى “أنتلجنسيا”، إلى نخب ثقافية فاعلة تاريخيًا، تقودها، من دون أن تُفْرطْ في التمسرح، وتذهب إلى الحدِّ الأقصى من الثورية اليسارية الكلاسيكية، أو الليبرالية الحداثية، نُخَب تنزع القناع عن وجهها، وتفعل كما فعل الشاعر أبو الطيِّب المتنبي، فهو عندما مدح كافور الإخشيدي كان يضعُ القناع، وإن كان يطلب جاهًا وسلطة، وهو نزوعٌ مشروع لمثقَّفٍ عضوي، لقد اتّصل بكافور والقناع على وجهه، ويعرف أنَّه يُخفي رأيًا/ موقفًا في أنَّ من يتَّصل به هو (عبدٌ) يتخلَّقُ بأخلاق العبودية، وإن كان حاكمًا يحكم، ولمَّا هجاهُ نزعَ القناع، وهذا هو راهن المسرحي العربي، المسرحي الذي عليه أن ينزع القناع، لأنَّه إنسان نوعي بحسب “ماركس”، وإنسانٌ أعلى بحسب “نيتشة”. إنسانٌ يُنتجُ الجمال، يصنعه، لا يراكم الثروات والعلوم، فتتفاعل، تتخمَّر، تفسد وتطلع روائحها، وينتشر الطاعون طاعون الثروات والعلوم. لماذا نذهب إلى (المومياء) نبعث فيها الحياة المستحيلة، فيما نسحبُ الحياة، نعدمُ البشر بالجملة في حروبٍ مُفتعلة، يُشعلها ويقودها (دراكولات) السياسة والاقتصاد والثقافة. لماذا؟ لماذا نعادي عقلنا؟ لماذا نهينه؟

– أنور محمد

ناقد مسرحي سوري

https://geiroon.net/a

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *