المسرح في باريس هو باريس وهو وحده الحقيقة!

 

كاتيا الطويل –  النهار 

 

عندما يكون المرء حزينًا في ليالي باريس الباردة، يمكنه أن تذهب إلى المسرح. فهو يناديه من بين ألماس ثريّاته.

وعندما يجد نفسه تعبة، تنهشها براثن الوحدة، لا بدّ أن يعثر على مسرحيّة تخفّف عنه برد الداخل والخارج.

كأنّ باريس مسرح كبير. خشبة لا تنتهي. في كلّ دائرة مسرح. في كلّ شارع مقاعد تنتظر أهلها. عند كلّ زاوية ممثّل يركض خوفًا من التأخّر على جمهوره.

أنتَ أيها الكائن الوحيد، لا تقلق. هنا في العتمة الدافئة ستجد مكانك. هنا أنت مجهول الهويّة والانتماء والحزن. فاخلع عنك قلبك وأفكارك. واغرق في لذّة الخيال. وفي خمرة الماضي والمستقبل، وفي كلّ ما هو واقع بينهما. واسترق النظر إلى حياةٍ غير حياتك. واضحك. وابكِ.

هنا يمكنك أن تخلع عنك أناك، لتعانق أنا جديدة تلبسك لساعتين ثمّ تسكنك إلى الأبد.

في باريس جميع الكتّاب والمسرحيّين والأبطال على أهبة الاستعداد للوقوف إلى جانبك.

ستجد تشيخوف وزفايغ وستاينبك. بيكيت، يونسكو وكامو. هناك أيضاً راسين وكورناي وموليير. سيحضنك أوسكار وايلد. وجدي معوّض سيهدهد تعبك، وسيعرض عليك فاوست أن تبيعه أحزانك مقابل ساعتين من النسيان.

على مقاعد وثيرة، أحيانًا مخمليّة، وأحيانًا أخرى خشبيّة، يلعب ممثّلون أدوارهم أمامك بإتقان وتفانٍ. ينسون أسماءهم، ينسّونك أعباءك، وترحلون معًا إلى البعيد.

تنظر حولك وتستمع إلى الأحاديث الأنيقة بفرنسيّتها الصحيحة الرهيفة التي لا تشبه فرنسيّة النهار التعبة. فرنسيّة المسرح “بنت عيلة”، لا تتلفّظ بكلمات نابية، ولا تخطئ في الـصرف والنحو.

رجال ونساء متأنّقون، أو أقلّه بذلوا جهدًا ليبدوا كذلك. تلاميذ مدارس “جمّعوا بعضهم” وجاؤوا معًا إلى عالم لا يشبه عالمهم في الصباح. شبّان بجاكيتاتهم الجلديّة يمسكون بخوذهم السود وينتظرون دورهم بهدوء. الجميع هنا. باريس تجمع شتات أبنائها على أبواب المسارح. رجال ونساء، تلامذة وجامعيّون، أساتذة وهواة الهارلي دايفدسون. يقفون بالصفّ ليغرقوا في مقاعدهم لمدّة ساعتين تقريبًا.

تراقبهم من بعيد، وتروح تتساءل بينك وبين نفسك عن شكل حياتهم. عن حقائبهم، غرفهم، كتبهم، أفكارهم، ضحكاتهم، دموعهم. تنظر إلى وجوههم، وتقارنها بوجوه أبطال عرفتهم. جميعهم يهربون من حزنهم إلى المسرح مثلك. ألم تقل الكاتبة الأميركيّة جينيفر دونيلّلي: ما حاجة الإنسان السعيد إلى شكسبير؟

مسارح باريس لا عدّ لها ولا حصر. يعود تاريخ معظمها إلى قرون خلت. مسارح تختلف أهمّيتها ويختلف حجمها ويختلف نوع العروض التي تقدّمها ويختلف حتّى هدير ثريّاتها.

فلنبدأ من أعلى الهرم. هناك طبعًا الـPalais Garnier دار الأوبّرا العالميّة. يزورها السيّاح من مختلف أقطار العالم ليتمشّوا في ردهاتها وفي قاعاتها المذهّبة. سياح يطفحون فضولاً ودهشة. ينسون أن لا شعور في الدنيا يضارع لحظة انتظار فتح الستارة. لا رهبة في العالم كرهبة انتظار النوتة الأولى لموسيقى قاعة الأوبرا.

بعد دار الأوبرا، تتدرّج المسارح المخمليّة المذهلة. تجد أوّلاً مسرح الملك إدوار السابع عاشق الفنّ. مسرح مهيب ساحر تقول الشائعات إنّ طيف الممثّل الأميركيّ جورج ويلز يزوره كلّ مساء ويتمشّى بين صفوف مقاعده.

بعده مباشرة يأتي مسرح الأوديون. مسرح رائع يثير الرعشة في القلوب والعقول، لجمال تماثيله ولوحاته وثريّاته. مسرح بالكاد يمكن المرء أن يجد فيه مقعدًا في مسرحيّة ستعرض بعد ثلاث سنوات.

لا بدّ كذلك من الحديث عن مسرح رانولاغ. مسرح ذو هيبة، ملتحف في أزقّة الدائرة السادسة عشرة.

قرب منزل بلزاك، وفي عقر دار هذه المنطقة السكنيّة الهادئة، مسرح مثير للإعجاب، جليل يشبه بأخشابه العتيقة ظهر شيخ مقوّس يسير بهدوء وشموخ.

أمّا مسرح الكوميدي فرانسيز، وهو مسرح طبقة النبلاء منذ العام 1680، فيبقى من أعرق المسارح الباريسيّة وأجملها. مخمل أنيق، ثريّات متوهّجة، ذهب متغطرس، كلّ العوامل التي تجعل المرء ينسى ما هو خارج هذه القاعة البيضويّة المهيبة.

أمّا تياتر شاتليه، فلا يمكن تجاهل تاريخه وعراقته وأبّهة العروض التي تقام فيه. شاتليه أي القصر الصغير كان في الأصل قصرًا صغيرًا أو ما عرف بالحصن، إلى أن أمر البارون هوسمان الغنيّ عن التعريف أن يُبنى في ذلك الموضع مسرح في العام 1860.

مسارح أخرى لا يمكن الحديث عنها كلّها. معظمها ضخم ومعروف عالميًّا كمثل Théâtre de la gaité-Montparnasse ; Le trianon théâtre ; Théâtre Mogador ; Théâtre de la Madeleine ;Théâtre des folies bergère ; Le tarmac ;L’Olympia ;Le Théâtre des bouffes parisiens ;Théâtre Michel ;Théâtre des variétés ;Théâtre des Nouveautés ;Théâtre de la Porte Saint-Martin.

ومنها ما هو مختبئ في الأزقّة الباردة المعتمة.

أمّا المسارح الوطنيّة فمتعدّدة إنّما يتربّع على عرشها مسرحLe théâtre National de la Colline الذي يديره اللبنانيّ الرائع وجدي معوّض. مسارح كثيرة. منها الكبير ومنها الصغير. منها تلك التي تقتطع ثمن بطاقتها من مصروفك لأشهر، ومنها تلك التي يمكنك أن تزورها عندما يدبّ الحزن في قلبك.

لا تقلّ المسارح الصغيرة شأنًا على الصعيد الفنّيّ عن المسارح الكبيرة. كلّها تدهشك بحرفيّة ممثّليها وإبداعهم وقدرة المخرجين على الخلق والابتكار. حيثما ذهبتَ وجدت مسرحًا صغيرًا بدرجات قليلة وألوان فاقعة ومنشورات إعلانيّة. الحيّ اللاتينيّ نفسه يضمّ نحو ثلاثة مسارح. حيثما رميت نظرك، وقعتَ على رجل أو امرأة قابعين خلف شبّاكهما الزجاجيّ الصغير في انتظار جمهور نهم يعيش على رائحة خشب المسرح العتيقة.

عندما تكون حزينًا في ليالي باريس الباردة، لا تقلق. ستجد رفاقًا كثراً يسلّونك. جميعهم هنا، ممثّلون ومخرجون وأبطال يخرجون من صفحاتهم ليمسكوا بيدك ويمضوا إلى جانبك الليل بطوله. عندما تكون حزينًا في باريس تذكّر أنّ العالم كلّه كذبة وأنّ المسرح وحده هو الحقيقة.

—————————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *