العرض المكسيكسي المهرجان التجريبي الدورة 24 ” قناع يقابل شعر” : فانتازيا كرنفال الأضداد .. هكذا تموت الثورات : أمل ممدوح

 

المصدر : محمد سامي موقع الخشبة

لا أوضح من حلبة مصارعة كموروث رمزي لتجسيد تضاد وانقسام حاد يطلق الصراعات في مواجهة مشروعة للسيرعلى نصل حاد قاطع يحيل إما لنصر أو هزيمة ولحياة أو موت،وقد اختار العرض المكسيكي الناطق بالأسبانية Máscara vs cabellera أي ” قناع مقابل شعر” من عروض المهرجان التجريبي؛السير على هذا النصل كتمثيل رمزي ساخر لفكرته الثورية، العرض من إخراج “إيروين فيتيا”بتكييف عصري للنص الذي كتبه عام 1985الكاتب المكسيكي الشهير” فيكتور هوجو باسكون باندا” كصحوة ثورية تشمل شقين أحدهما ناقد للواقع السياسي الاجتماعي الخرب وفساد مؤسسات الدولة وغياب قيم العدالة وإن حضرت القوانين،والآخر موقظ للجذور الثقافية التي عمل الغزاة والقهر على طمسها، بحيث يتماشى المساران طوال الوقت.

“أبولو جارتسيا”بطل العرض مصارع شاب قوي شهير ذو شعبية وشخصية جذابة،دائما ما يرتدي قناعا على رأسه كعادة الكثيرين من مصارعي المكسيك، فالقناع هنا جزء من هيئة البطل الشعبي للعبة عميقة الجذور الشعبية لهذا المجتمع بطبيعته العنفوانية الصاخبة، يلعب لحساب بعض المؤسسات التي تقيم هذه المباريات بإدارة أمريكية لكنه يقرر فجأة التمرد والتحرر من ذلك بالتنافس بشكل مستقل مع فريقه الذي قام بتدريبه في مباراة رئيسية تمثل الانتخابات الرئاسية والتي قرر خوضها كنوع من الثورة على الظلم والفساد السائدين وعلى استغلاله ورفاقه سواء من الخارج أو الداخل، لتكون هذه الجولة حلما مفصليا كحياة أو موت له ولفريقه الذي أكثره رجالا وعدد محدود من النساء منهن النماذج النسائية المشاركة بأدوار أخرى لدمجهن رمزيا في المصارعة كفكرة ثورية اجتماعية، أبولو الإبن الوحيد لأمه “دولوريس”بينما تعشقه “شولا دينفر”فنانة الملاهي الليلية لشهامته وشجاعته.

يبدأ العرض بصوت طبول سيمتري وصعود مصارعين كما سنعرف على”الأرينا”الزرقاء المنصوبة أمامنا والباقية طوال العرض الذي يبدأ عليها وينتهي،والأرينا الإسم المكسيكي لحلبة المصارعة،في هيئات قتالية حماسية بملابس عادية يتردد في بعضها قطع مموهة كملابس الجيش أو كوفية فلسطينية كترميز لعولمة الحالة الثورية،بعضهم مقنّع أو ملثم أو مصبوغ الوجه أو بلا ذلك، يلقون بشكل فردي يتردد جماعيا جملا مجردة مفتاحية ثورية بأداء ثوري يشير لسلبيات سياسية واجتماعية ليتطور الأمر تدريجيا من حالة تلقائية لمران يهدف لمواجهة ثورية ضد حالات وأوضاع بعضها مشخص في نماذج بعينها كالرأسمالي الاستغلالي الأمريكي”سيمون”بملابس”الكاو بوي”الذي يدير مؤسسة عالمية للمصارعة تتصل بالأجهزة الإعلامية والدعائية والميديا الترويجية ويكبل أبولو بالقروض مستنزيفا طاقته وزملائه، وحليفه “تشامب”رئيس المؤسسة/ الدولة الصوري الفاسد الذي يزيف الحقائق ليبدو الفساد وطنية وتقدم والثورة عرقلة تظلم الشعب، يساومه للتخلي عن ترشيح نفسه لكن أبولو لا يرضخ سواء للرأسمالية المستغلة أو السلطة الفاسدة مقررا خوض مصارعته التحريرية للجميع بما يذكرنا بـ”اسبارتاكوس”محرر العبيد ومصارع الوحوش للترفيه في الإمبراطورية الرومانية حتى ثار متمردا منضما له بقية العبيد فيما اشتهر بثورة العبيد الثالثة.

هناك خطان وشكلان سرديان متوازيان ومتداخلان في العرض،أحدهما تقليدي المضمون والسرد يتمثل في مشاهد الأم التي نعرف من خلالها المعلومات الأساسية عن أبولو وعن شخصيته وحياته الماضية والحالية إما في مونولوجات أو ديالوجات مع جارتها أو صديقتها “دونا باز”أو مع حبيبته “شولا”، فالأم الحاوية لتاريخ شخصية هذا البطل الشعبي كالأرض الحاوية للجذور وممثلة الثقافة العميقة الأصلية لسكان المكسيك؛ تحمل وجها بملامح الهنود الحمر السكان الأصليين بملابس شعبية وتقوم بالعبادات التقليدية الطقسية وتؤمن بالميثولوجيا والأساطير المتوارثة التي فاض بها العرض مغرق المحلية التي علينا استيعاب خصوصيتها في التلقي رغم لمحات لتخفيفها وعولمة الحالة الثورية ومنها دمج جملة “الشعب يريد إسقاط النظام” ضمن جمل ثورية؛ فهي تؤدي الصلوات التعبدية وتنتمي للطبيعة الأم الكبرى في إحالة أعم وربط بفكرة “الأصل” فتقول في جملتها الافتتاحية “حين أطعمت الأرض أبناءها الذرة”،هذه الأم بروحها المكسيكية الأصلية الوجه النقيض الكاشف لانهزام الشخصية المعاكسة “شولا دينفر”الفنانة الرخيصة عاشقة أبولو التي صورها العرض بمفهوم “الجروتسك” كنسخة مشوهة للشخصية المكسيكية المعاصرة بتأثير الثقافة الأمريكية الزائفة والاستهلاكية حتى صارت مسخا ضالا عن طبيعته، فهي ترتدي ملابس أمريكية الهيئة والصنع وتضع مساحيق أمريكية وشعرا مستعارا أشقرا بماركة أمريكية وأنهكت جسدها بالذوق الأمريكي التسويقي بعمليات تجميل صناعية في عدة أجزاء وحتى اسمها صار ينتسب لمدينة دينفر الأمريكية التي قضت فيها فترة لتسمى بعدها “دوللي الشقراء العائدة من دينفر” ككل ما يمكن وصفها به كذروة للانسحاق النفسي والثقافي والجدب الذي مثل بكونها عاقر لا تنجب.هذا الخط الأول حاضن للخط السردي الثاني الثوري الطليعي الذي اتخذ في صياغته الحرة في عدة أجزاء أسلوب “الكباريه السياسي”من خلال عالم المصارعة التي تخشاها الأم “التيار التقليدي”.

يندمج الخطان بالوصول للذروة بالمصارعة النهائية التي حملت اسم “قناع مقابل شعر”حيث نصف اللاعبين مقنعي الرأس والآخرين بوجوههم وشعورهم، بينما أسماء الفريقين؛”وجوه”وهو فريق أبولو و”كعوب”وهو الفريق المنافس، ليكون مصير”أبولو”مرتدي القناع القتل على يد صديقه الخائن بادي الشعر سيبيريلو “الأنتاجونيست” الذي حاول في المباراة خلع قناعه عنه لأول مرة كتجسيد مؤلم للإهانة،وهنا تنضم الأم لجموع الثائرين في نهاية دائرية كالبداية يردد فيها الجميع جملة البداية “حارب حارب لا توقف الحرب”حيث الأمل والكفاح مستمران وإن مات أبولو الذي كان ميلاده وموته غامضين حاملين لروح الأسطورة والثقافة الشعبية بشكل منسجم مع ما يدعمه العرض،فأبولو جاء ميلاده المروي عن أمه أسطوريا ؛ولد بلا ألم قبل الزلزال فهو “ابن الأرض” وجاء موته غامضا باختفاء جثته وتخبط التفاسير كقديس أسطوري.

ساد العرض ظهور لظل شبحي في هيئة رجل مقنع الرأس بزي أسود كامل بعينين بيضاوين كبيرتين وحدهما كرمز لستبصاري؛ يصاحب الأبطال الأساسيين بأداء يبدو تحريكي لبواطنهم أو للأحداث بشكل ترديدي داعم أحيانا أو ساخر كأنه مبعوث قدري يخيم على الجميع،وهو ما انسجم مع رمزية العرض المباشرة كحالة شعبية وكوميدياه السوداء الساخرة، بطاقة كبيرة وأداء مفعم بها من معظم الممثلين وربما كان أقلهم حضورا “أبولو”بينما الأم كان أداؤها شديد العمق والقوة، أما الديكور فجاء تجريديا بسيطا بأسلوب بريختي كاسر للإيهام حيث تُنقل أمامنا قطع الديكور البسيطة باستخدامات متعددة فهناك ثلاثة براميل قديمة مرشوشة بالألوان مرسوم عليها شكل قناع تستخدم كمقاعد أو طاولات أو حواجز أو طبول مع الحلبة الزراقاء وسط المسرح دائما وإنارة تخفت أو تقوى دون استخدام إضاءات تعبيرية إلا في الحالات الاستعراضية،أما الموسيقى فكانت تنحصر في عزف حي بالجيتار ودقات الطبول الحية،فالعرض واقعي رمزي ثوري عالي النبرة يسعى لإيقاظ مشاهده بقسوة بلا مخدر،ومن هنا كان الجزء الأخير فيه وتمثله المباراة الأخيرة التي قدمها “سيمون” بشكل الاستعراض الترفيهي بإنجليزية أمريكية كتجسيد للحالة المادية؛ بما فيه من فوضى حركية حادة وزمن حي نسبيا وحركات عنيفة حقيقية ومزاج صاخب؛ يبدو صادما للمتلقي المصري لكنه أدير بشكل واقعي وفق الذائقة المكسيكية وهو ما يتيحه المهرجان التجريبي، فالعرض نجح في خياره المتجه لمسرح الشارع وحالته الشعبية الاحتفالية الصاخبة صوتيا وبصريا خاصة مع ألوان الأقنعة وبدل المصارعة إن أحببنا ذلك أم لم يوافقنا.

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد العاشر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *